العفّة خُلُق إيماني رفيع للمؤمن، وثمرة من ثمار الإيمان بالله، وهي البعد عن سفاسف الأمور وخدش المروءة والحياء، والعفة لذة وانتصار على النفس والشهوات وتقوية للمؤمن على التمسك بالأفعال الجميلة والآداب الإنسانية الإسلامية، كما أنها إقامة العفاف والنزاهة والطهارة في النفوس، وغرس الفضائل والمحاسن في المجتمعات؛ لذا يدعو الله المسلمين إلى العفة وضرب مثلا للعفة في شخص السيدة مريم العذراء: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}.
واختار نبي الله سيدنا يوسف- عليه السلام- السجن بدلا من أن تُنتهك عفته حتى في ظل الضغوط الشديدة: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.
وكان النبي في أعلى درجات العفة، فعن سيدنا أبي هريرة: ((أَخَذَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ رَضيَ اللهُ عنهمَا تَمْرَةً مِن تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا في فِيهِ، فَقالَ النبيُّ: كِخْ كِخْ. لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قالَ: أَمَا شَعَرْتَ أنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ)) وكخ كخ: هو زجر للصبي وردع.
وعنه أيضًا عن رسول الله قال: ((واللَّهِ إنِّي لأَنْقَلِبُ إلى أهْلِي فأجِدُ التَّمْرَةَ ساقِطَةً علَى فِراشِي، أوْ في بَيْتِي، فأرْفَعُها لِآكُلَها، ثُمَّ أخْشَى أنْ تَكُونَ صَدَقَةً، أوْ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَأُلْقِيها)).
وعن سيدنا أنس بن مالك: ((مَرَّ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ، فقالَ: لَوْلا أنْ تَكُونَ مِن صَدَقَةٍ لَأَكَلْتُها)).
كما أوضح القرآن سمة العفة كدلالة من أهم دلالات الإيمان والفلاح، فقال سبحانه في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.
وعفة الجوارح تعني أن المسلم يعف يده ورجله وعينه وأُذُنَه وفرجه عن الحرام فلا تغلبه شهواته، وقد أمر الله كل مسلم أن يعف نفسه ويحفظ فرجه حتى يتيسّر له الزواج: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}.
كما قال الشافعي: (الفضائل أربع: إحداها: الحكمة، وقوامها الفكرة. والثانية: العفَّة، وقوامها الشهوة. والثالثة: القوة، وقوامها الغضب. والرابعة: العدل، وقوامه في اعتدال قوى النفس).
فيجب على المسلم أن يحفظ جوارحه ويستعملها في طاعة الله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ ۚ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولًا}.
فالجوارح يوم القيامة تشهد على أصحابها بما عملوا في الدنيا {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
ولنبدأ في حفظ الجوارح بذكر حفظ البصر قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا…}.
وعن سيدنا حذيفة بن اليمان أن رسول الله قال: ((النظرةُ سهمٌ مسمومٌ من سهامِ إبليسَ من تركَه خوفًا من اللهِ آتاهُ اللهُ إيمانًا يجدُ حلاوتَه في قلبِه)).
وقالوا: أن النظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإن النظرة تولد الخاطرة، ثم تولد الخاطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ما لم يمنع مانع.
ومن حفظ الجوارح حفظ السمع عن سماع المحرمات قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}. ووصف المؤمنين بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُون}.
وأيضاً حفظ اللسان فالإسلام ينهى عن الكلام الفاحش كله قال صلى الله عليه وسلم: ((الحياءُ من الإيمانِ, والإيمانُ في الجنَّةِ, والبذاءُ من الجفاءِ, والجفاءُ في النارِ))، وقال: ((ليس المُؤمِنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ))، والفحش والبذاء هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ما يكون ذلك فيما يتعلق بما يقع بين الرجل والمرأة، ولهذا ورد النهي الصريح عن التحدث بما يحدث بين الرجل وزوجته، وفي القرآن والسنة التكنية عن هذه الأمور بما يدل عليها دون التصريح.
ومن الكلام الباطل قذف المحصنات المؤمنات: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}.
اللهم أعنا على حفظ الجوارح، واهدنا للعمل الصالح