هناك من يقفون عند ظواهر النصوص لا يتجاوزون الظاهر الحرفي لها إلى فهم مقاصدها ومراميها ، أو إدراك ما تحمله تلك المقاصد السامية من وجوه الحكمة واليسر والسعة ، فضلًا عن عدم فهمهم للمقاصد العامة للشرع الحنيف ، فيحملون الناس على العنت والمشقة ، إما جهلًا وسوء فهم، وإما إخراجًا للنصوص عن سياقها عن قصد وسوء طوية.
وقد أكد العلماء والفقهاء والأصوليون على أهمية فهم المقاصد العامة للتشريع فهي الميزان الدقيق الذي تنضبط به الفتوى ، وتستقيم به أمور الخلق ، وتتحقق به مصالح البلاد والعباد ، فالأحكام في جملتها بنيت على جلب المصلحة أو درء المفسدة أو عليهما معا ، يقول الإمام الشاطبي (رحمه الله) : بالاستقراء وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد ، والأحكام العادية تدور عليها حيثما دارت، فترى الشيء الواحد يُمنَع في حال لا تكون فيه مصلحة ، فإذا كان فيه مصلحة جاز.
وكثير من الأحكام الجزئية الفرعية لا يمكن الحكم فيهــا إلا من خلال فهم المقاصد العامة للتشريع ، وفي ضوء فهم القواعد الأصولية وقواعد الفقه الكلية.
وقد اجتهد علماؤنا وفقهاؤنا العظام في تقرير عدد من المبادئ والمقاصد العامة في صورة قواعد كلية وأخرى فرعية على نحو قولهم : ” الأمور بمقاصدها ” ، و” لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان ” ، و”الأصل في المنافع الإباحة والأصل في المضار التحريم “، و “لا ضرر ولا ضرار”، و” الضرر يُزال” ، و”الضرر لا يزال بضرر أكبر منه” ، و”يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام” ، و”درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة”, و” لا تدفع المفسدة اليسيرة بضياع المصلحة الكبيرة”, و”المشقة تجلب التيسير”, و”الضرورات تبيح المحظورات” , و” ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها”، و”العادة محُكّمة”، و”المعروف عرفا كالمشروط شرطا” ، و”المنكر لا يُزال بمنكر أعظم منه” و “اليقين لا يزال بالشك”، وأن كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث ، فليست من الشريعة في شيء.
ونؤكد أنه لا يكفي لمن يتصدى لقضايا العلم الشرعي أن يكون ملمًا ببعض القواعد دون بعض ، ولا أن يكون مجرد حافظ للقواعد غير فاهم لمعانيها ومراميها ولا مدرك لدقائقها ، فيقف عند قولهم : الضرر يزال ، دون أن يدرك أن الضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه ، وأن الضرر الخاص يُتحمل لدفع الضرر العام ، أو يقف عند حدود قولهم : درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ، دون أن يدرك أن درء المفسدة اليسيرة لا يدفع بتضييع المصلحة الكبيرة ، وأنه إذا تعارضت مفسدتان دُفعت الأشد بالأخف ، بل عليه أن يسبر أغوار هذه القواعد بما يمكنه من الحكم الدقيق على الأمور.
علمًا بأن المقاصد العامة قائمة على مراعاة مصالح البلاد والعباد ، متمثلة في الكليات الست ، وهي : الحفاظ على الدين ، والحفاظ على الوطن ، والحفاظ على النفس ، والحفاظ على المال ، والحفاظ على العقل ، والحفاظ على العرض والشرف ، فحيث تكون مصلحة البلاد والعباد فثمة شرع الله (عز وجل) “فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ” .