الدكتور جابر عصفور ، كثيرًا ما يعجبني أسلوبه الممتع وفكره المستنير ؛ لذا كنت أحرص كل الحرص على اقتناء مؤلفاته ، رغم اختلافي معه في بعض القضايا والموضوعات التي عالجها .. قراءتي لمؤلفاته تمثل متعة خاصة .. رحيله يمثل خسارة كبيرة لثقافتنا العربية المعاصرة .
وننوه بادئ ذي بدء إلى أنه ليس من السهولة أو البساطة الوصول إلى قيادة الرأي المعرفي ، أو قيادة الفكر الثقافي في عالمنا العربي الذي يموج بالعديد من التيارات الثقافية التي بينها من الخلاف والاختلاف ما يصل حد التناقض والتضاد .. من هنا فلكي يرتقي الباحث أو المثقف إلى المستوى الذي يكون فيه صاحب رأي معتبر أو رؤية ينتظرها الناس ويتلقفها المثقفون ، ويتفاعل معها الوسط الثقافي و الفضاء المعرفي للأمة .. أقول لكي يرتقي المثقف إلى هذا المستوى لابد له من مواصلة الليل بالنهار قارئًا ، باحثًا ، مفكرًا ، متأملًا .
ولعل هذا بالضبط هو ما كان يفعله الدكتور جابر عصفور طوال حياته .. فلقد عرفنا عن الرجل انقطاعة الدائم والمستمر للعملية البحثية طوال عمره .. فقد كان يعطي جلَّ وقته للبحث والدرس والقراءة والكتابة .. تأكد ذلك من خلال عشرات المؤلفات التي أصدرها ، ومئات المقالات التي نشرها ، وجاءت موزعة بين الفكر ، والأدب ، والنقد ، والثقافة العامة ، والسياسة .. ناهيك عن عشرات أو مئات الرسائل التي أشرف عليها وناقشها في مختلف ربوع دول وطننا العربي الكبير .
ولقد لامس مفكرنا في كتاباته المتنوعة عدة مجالات وعدة تخصصات .. فأنت تكتشف حين تقرأ له أنه على علم ، ووعي ، واطلاع واسع في مجالات الفلسفة ، وعلم النفس ، وعلم الاجتماع ، وعلم الاقتصاد ، والجغرافيا السياسية ، والتاريخ العام للإنسانية … إلخ من المعارف التي نتبين اطلاعه عليها من خلال استشهاداته المتعددة أو انتقاداته المتنوعة لآراء كبار المفكرين والفلاسفة الذين تخصصوا في هذه العلوم وتلك المجالات .
ولقد كان لدى الدكتور جابر عصفور درجة كبيرة من الإلمام الواعي بالتراث الأدبي والفكري للأمة ، وكثيرة هي استشهاداته بأقوال السابقين من علمائنا ، خاصة الأصفهاني والجرجاني وعلماء الاعتزال وكثير من البلاغيين والنحاة .
جابر عصفور رجل ممن يقال عنهم : ” ملأ الدنيا وشغل الناس ” .. فقد كان للرجل فكره ، وكان له انتاجه الثقافي المتنوع ، ومن الطبيعي أن يثير أي انتاج فكري عدة محاورات وعدة مداولات بين المتلقين له والمتفاعلين معه .. من هنا فقد دخل ناقدنا ومفكرنا في العديد من المعارك الفكرية والأدبية والثقافية ، ولعل أشهرها معركته الكبرى وموقعته الثقافية الأبرز مع زميله المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العزيز حمودة .. وهي معركة كانت تدور في صميمها وجوهرها حول موقف كل منهما من قضية الحداثة ومنهجية التحديث .. إنها معركة ألَّف فيها كل منهما أكثر من كتاب ، وقدَّم فيها كل منهما أكثر من عمل .
وتجدر الإشارة إلى أنه قد ساهم فيها وامتطى جوادها أكثر من أديب وأكثر من باحث ، فكتب فيها مَن كتب ، وعلق عليها مَن علق من الباحثين والدارسين في مختلف أرجاء الوطن العربي الكبير .
ولقد تنوعت المستويات التي قدَّم لها جابر عصفور ما أنتجه من كتب ودراسات وأبحاث .. فلقد كتب على مستوى النخبة ، والخاصة ؛ وذلك من خلال كتاباته عن رفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين والعقاد وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور … وغيرهم .
أما على المستوى العام فقد اشتبك الدكتور جابر عصفور مع عموم القرَّاء العاديين من خلال كتاباته وأحاديثه عن القضايا التي ينشغل بها العقل الجمعي العام ، كدعمه لقضايا الحريات الفكرية ، والعدالة الاجتماعية ، وحرية الإبداع . .
ونسجل في النهاية أنه أيًا ما كان اتفاقنا أو اختلافنا حول مواقف وآراء الدكتور جابر عصفور فإنه ثمة اتفاق بيننا جميعًا على مكانته الفكرية ، وعلى كونه كان رمزًا من رموز ثقافتنا المعاصرة ، فقد ملأ الدنيا وشغل الناس .