بعد أن بيَّنَّا الأسبوع الماضي مراتب النفس البشرية، وأن من أتّبع نفسه هواها أوردَتْه الهاوية، لابد أن يعلم كل منا أن الخلاص والنجاة يحتاجان إلى أمور فيها من التعب، والنَّصَب ما فيها؛ ولكنها عند أهل اليقين والطاعة ملذَّةٌ ونعيمٌ، وطُرُق النجاة من ضلالات النفوس أطلق عليها العلماء اسم مجاهدة النفس؛ أخْذًا من حديث النبي الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن فضالة بن عبيد، قال سمِعْتُ رسول الله يقول: ((والمجاهدُ من جاهدَ نفسَهُ في طاعةِ اللَّهِ))، وقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لمن سأله عن الجهاد: ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها.
وقد ذكرنا في مراتب النفس البشرية، أن منها ما يحض على ارتكاب المعاصي والذنوب وهي النفس الأمَّارة بالسوء، فهي صاحبة النصيب الأكبر من هذه المجاهدة حتى تصل إلى درجة النفس المطمئنَّة.
والإنسان لابد أن يجاهد نفسه وعليه أن يعلم أنه لابد له من عُدَّة يتسلح بها وهو يجاهد نفسه، وأقوى الأسلحة التي يستخدمها المسلم فى مجاهدة نفسه، سلاح الصبر؛ فمن صبر على جهاد نفسه وهواه وشيطانه غلبهم وجعل له النصر والغلبة، وملك نفسه فصار ملكًا عزيزًا، ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك غُلب وقُهر وأُسر، وصار عبدًا ذليلًا أسيرًا فى يد شيطانه وهواه، لأنه كما قال النبي: ((واعلَمْ أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ)).
فلابد من صبر وثبات أمام طغيان هذه النفس، ولابد من مجاهدتها .ولنعلم أنه لا يمكن التخلّق بالأخلاق الحسنة إلا بتحسين هيئة النفس من الداخل، وذلك يتحقق بقوة العلم، قوة الغضب، قوة الشهوة، قوة العدل بين القوى الثلاث السابقة، فقوة العلم تتمثل بالقدرة على إدراك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الحسن والقبيح في الأفعال، كما أنه بصلاح قوة العلم تتحقق الحكمة التي تعدّ رأس الأخلاق، أما قوة الغضب فهي القدرة على التحكّم بالانفعالات والغضب بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولابدّ للشهوة أيضاً من أن تتحدّد بالحكمة القائمة على العقل والشرع، وقوة العدل تعني القدرة على ضبط قوتي الشهوة والغضب بالنظر إلى الشرع والعقل.
إن العبد منذ تكليفه بالعبادة والطاعة لله، وإلى أن يُرفع عنه التكليف يخوض معركةً مع نفسه وشيطانه؛ فنفسه تدعوه إلى هواها، وشيطانه يؤزه إلى ما يهلكه.
والناس على فريقين: من يغلبه شيطانه، ويركن إلى دنياه وشهواته، وينسى حقوق ربه، فمصيره ما ذكر الله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ} (النازعات:37-39).
وعكسه من غلب شيطانَه، وقهر نفسَه، ولم يركن إلى الدنيا، وتمتع بما أحل الله له من الشهوات، ولم يجاوز ذلك إلى ما حرَّم الله عليه، وقام بحق الله خير قيام؛ فهو السعيد المذكور فى قوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى* فَإِنَّ الجَنَّةَ هِى المَأْوَى} (النازعات:40-41).
وتعتبر معالجةَ النفس ومجاهدتَها من أعظم أنواع الجهاد؛ لأنه جهاد يستغرقُ العمرَ كلَّه، وإذا طال الأمد ضعفت النفس؛ فاحتاجت إلى مجاهدة أكثر.
يقول سفيان الثوري رحمه الله: «ما عالجت شيئًا أشد عليَّ من نفسى، مرة لى ومرة عليَّ».
وكان عمر رضى الله عنه يخاطب نفسه، ويقهرها حتى لا تجمح به فتخرجه عن الجادة فقد قال أنس رضي الله عنه: دخل عمر بن الخطاب حائطًا ذات مرة وبدأ يخاطب نفسه ويحاسبها، فسمعته يقول: «عمرُ بن الخطاب أميرُ المؤمنين، بخ بخ، والله يا ابن الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك».
فأشد شئ جهاد النفس، ويجب على كل منا ألا يوكل الأمر إلى الأخذ بالأسباب فقط لإلجامها بل علينا أن نستعين بالله عليها، فهذا نبى الله يوسف عليه السلام دعاه الشيطان إلى غضب الله مع امرأة العزيز التى زينت لها نفسها الأمَّارة بالسوء عملها فراودته عن نفسه، لكنه جاهد نفسه، ولم يستسلم للشيطان ولهواه، فقال: (مَعَاذَ الله)، واعترف بعجزه وضعفه رغم مجاهدته، وسأل الله العافية من هذا الابتلاء؛ ودعا: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ* فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (يوسف:34-33).