فكد كيدك، واسع سعيك،وناصب جُهدَك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيَّامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين .
كلمات انطلقت كوابل من الأعيرة النارية جادت بها قريحة سيدة الدوحة الهاشمية ..
تلكم السيدة التي فاقت بمناقبها وشجاعتها مئات الملايين من من الرجال في دنيا الناس .. حين واجهت الطاغية يزيد بن معاوية في مجلس حكمه وسلطانه .
بعد أن سيقت إليهإلى جانب آل بيتها مكبلين بالسلاسل والقيود عقب استشهاد الإمام الحسين بن علي عليهما السلام .
فلم يعرف التاريخ لسيدة من النساء مواجهة كمثل هذه المواجهة التي كانت حامية الوطيس بين الحق والباطل بإنفة يغلفها الشموخ والإكبار .
فجاءت خطبتها العصماء بأن كان رنينها.. الصرخة التي أكملت الثورة الحسينية وقودت عرش الظالمين إلى الأبد .
إنها عقيلة بني هاشم السيدة زينب بنت الإمام علي باب النبي المختار وفاطمة الزهراء سيدة النساء قبلة أهل الأسرار _حفيدة المصطفى إمام العالمين قاهر الكفار .
نسب شريف حاز من العز والفخار ..
ما تعجز الألسن عن وصفه،والكلمات عن مدحه،والعقول عن الإحاطة بكنهه ما أقبل الليل وأشرق النهار .
في ظلال البيت النبي الشريف ولدت السيدة زينب في السنة السادسة من الهجرة النبوية ويكبرها الإمامين “الحسن والحسين”ويصغرها أختها أم كلثوم .
_تحمل السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وليدتها إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كي يسميها بعد أن قرر الإمام علي أن لا يسبق جدها رسول الله في تسميتها ..
ليقرر النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام أنه لن يسبق الحق سبحانه وتعالى في ذلك .
وما هي غير سويعة .. حتى ينزل جبريل عليه السلام قائلا:”يا محمد السلام يقرئك السلام ويقول لك سم هذه المولودة زينب”!
وبهذا نرى أن الذي قام بتسميتها هو الله،وأن الذي زوج أبيها “علي” من أمها “فاطمة” إنما هو الله .
في أحضان البيت النبوي الشريف نشأت وترعرعت فكانت بملامحها وقسمات وجهها الشريف تشبه”فاطمة الزهراء”وبهيبتها وشموخها تشبه”علي”وفي مشيتها هي أقرب الناس شبها بجدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
بلغ من حيائها أنها كانت أيام أبيها الإمام علي لا تخرج من دارها إلا ليلا وكانوا يطفئون القناديل كي لا يراها أحد …
كيف لا وهي أحد درر النبوة المصانين عن الأغيار،فهم بشر لا كبقية البشر وإنما هم كالياقوت بين الحجر .
عاشت السيدة زينب في رحاب جدها رسول الله متنقلة في مواضع الوحي وبين ظلاله الوارفة تنعم بالنور الأبدي.
فكان كتف جدها رسول الله لها مركبا وأنواره الشريفة لها مشربا .
عاشت في حجر”فاطمة”وفي كنف “علي” وفي معية الحسن والحسين سلام الله عليهم .
تزوّجت السيدة زينب من ابن عَمِّها عبد الله بن جعفر بن أبي طالبالملقب بقطب السخاء_وزوَّجها إيّاه أبوها الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وأنجبت منه عليّاً، وعوناً الأكبر، وعباساً، ومُحمداً، وجعفراوأُمَ كُلثوم، ورُقية؛ ولكنَّها تُوفِّيت قبل البُلوغ _ .
شاهدت السيدة زينب في رحلة حياتها أحداثا جساما حيث فجعت بموت جدها رسول الله وكيف أن المدينة المنورة وما حولها انقلبت رأسا على عقب لهذا الحدث الجلل!
كما فزعت بموت أمها فاطمة الزهراء حيث كانت أول أهل البيت لحوقا بأبيها المصطفى ..
فذاقت بذلك مرارة الفقد وكبرت في سني العمر قبل أن تكبر بأن تحملت المسؤولية تجاه بيتها النبوي الشريف .
ورأت بعد ذلك ما لاقاه أبيها الإمام علي من فتن وكيف آلت إليه الخلافة مثخنة بالدماء بأن قتل عقب ذلك خيانة وغدرا .
وكيف سم أخوها الإمام الحسن بعد تنازله عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان!
فها هي تشاهد آل بيتها يتساقطون بطلا إثر بطل،وشهيدا إثر شهيد!
فواجهت الأحداث الدامية صابرة ومحتسبة حتى أطلق عليها المؤرخون”جبل الصبر” .
وليت شعري،،ليت الأمر انتهى إلى هذا الحد بل كانت الفاجعة التي اهتزت لها الدنيا قاطبة،وغيرت مجرى التاريخ وكادت أن تقضي على ما تبقى من رمق في حياة”العقيلة” …
إنها فاجعة كربلاء حيث استشهد الحسين ورفاقه من آل بيته وصحبه دفاعا عن الحق وعن دين جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكيف أنها جلست بين يدي الإمام الحسين قبيل المعركة وكيف أمرها بالتعزي بعزاء الله طالبا منها الصبر والاحتساب لمعرفته بما هو قادم عليه!
وكيف شاهدت أجساد أخيها وبنيها ورفاقهم ممزقة على رمال كربلاء الصفراء والتي تحولت إلى حمرة من الدماء الطاهرة المتدفقة على ثراها .
وكيف وقفت بين الدماء والأجساد المنحورة تنادي على جدها رسول الله
قائلة:
يا جداه …
هذا الحسين بالعراء .. ممزق الأعضاء سائل الدماء!
وكيف دعت ربها صابرة ومحتسبة سائلة الجزاء راجية أن يتقبل منها وآل بيتها هذا القربان .
وكيف لمثل زينب بعد المعركة أن تساق كما يساق الأسارى؟
وبعد مواجهتها الدامية وخطبتها العصماء في مواجهة يزيد وجنده تذهب الى مدينة جدها رسول الله وبصوت يعلوه النحيب ..
تمسك بعضدي المسجد قائلة:
يا جداه … إني ناعية لك ولدك الحسين!
فتهتز المدينة المنورة من البكاء وكأن رسول الله مات من جديد؟
وفي بيت الوحي وبين شوارع المدينة أخذت تتنقل وكأنها تستعيد الذكريات .
هنا كانت تجلس بين يدي جدها رسول الله
وهناك كانت تلهو وتلعب بين يدي”علي وفاطمة”
وفي هذا المكان كانت تجلس وتسير مع أخويها “الحسن والحسين”!
على هذا المنبر كان يخطب جدها رسول الله وكانت جموع الناس تلتف حوله وكأن على رؤوسهم الطير!
وكيف كان أكابر الصحابة يتسابقون في ودهم وصلتهم كأبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث كان يقول:”لصلة قرابة رسول الله أحب إلي من صلة قرابتي” .
كانت ديارهم محطا لزيارة جبريل والملائكة المكرمين .
كان حيهم مهاب الجناب تهابه ملوك كسرى وقيصر .
كانت ملوك العرب والعجم تخشاهم فلا تجرؤ على الاقتراب بالشر من ديارهم .
وبعد مدة ليست بالطويلة تعقد العقيلة العزم على المسير صوب مصر ومعها ما تبقى من آل بيتها فيخرج أهل مصر عن بكرة أبيهم يستقبلونها وفي مقدمتهم والي مصر”مسلمة بن مخلد الأنصاري” والذي خرج مستقبلا إياها حافي القدمين!
كانت في مصر حفاوة الاستقبال للمشيرة ووفدها المبارك ..
كيف لا وبين جدها رسول الله و أهل مصر ذمة ورحما حيث”مارية القبطية” التي أهداها إليه المقوقس عظيم مصر .
فكانت الوصية من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لآل بيته وصحابته:”إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا منها جندا كثيفا فإنهم وأهليهم في رباط إلى يوم القيامه” .
كانت دعوات السيدة زينب رضي الله عنها لأهل مصر:
“آويتمونا يا أهل مصر أواكم الله جعل الله لكم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا .
وبعد قرابة العام في مصر من العلم والعطاء تلقى السيدة زينب رضي الله عنها ربها راضية مرضية وذلك في الخامس عشر من رجب سنة ٦٢ من الهجرة النبوية أي بعد عام من استشهاد الإمام الحسين عليه السلام .
كانت مصر محطا لرحال الكوكبة العطرة من آل بيت النبوة حيث حوت مراقد أرضها أجسادهم الشريفة ..
ومن قبلهم كانت أرض مصر موطنا للتجلي الأعظم على موسى الكليم في طور سيناء …
وبها كانت خزانة يوسف الصديق عليه السلام .
وبها كانت رحلة العائلة المقدسة ..
فحين نقف على أعتاب مقام السيدة زينب بمصر المحروسه فإنما نقف على أعتاب تاريخ كبير حافل بالبطولات .
ولقد شاهدت كيف أن الوفود الغفيرة تحضر كل عام من شتى أرجاء المعمورة للاحتفال بذكرى قدومها إلى مصر متحملين عناء السفر والبعاد وكأن أرواحهم غريبة في غير ديار القوم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .
هكذا ديارهم أضحت قبلة للعام والخاص من الناس تطوف حول قبابهم الأرواح المتعطشة للنور والوصال الأبدي .
أما أعداؤهم فإلى مزبلة التاريخ لا حس لهم ولا خبر غير الذل والعار