ها هى مواسم الطاعات تتكرر، وليالى المغفرة تقرع أبوابنا بين الحين والآخر؛ لتنبِّهنا وتشجّع الطائعين منّا وتفتح الباب للمتنافسين {وفى ذلك فليتنافس المتنافسون}.
وهذه الليالى والمواسم أشبه بمحطّات التنقية والتطهير للقلوب من الأحقاد والذنوب وهى سبب للتقرّب إلى علام الغيوب.
بين يدينا ليلة اختصَّها الله سبحانه وتعالى بمزية المغفرة والعفو والإحسان؛ وهى ليلة النصف من شعبان.
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “يطَّلِعُ اللهُ إلى عبادِه ليلةَ النِّصفِ من شعبانَ؛ فيغفِرُ للمؤمنين، ويُمهِلُ الكافرين، ويدَعُ أهلَ الحقدِ بحقدِهم حتى يدَعوه”.
وفى رواية: “يطَّلِعُ اللهُ إلى جميعِ خلقِه ليلةَ النِّصفِ من شعبانَ، فيَغفِرُ لجميع خلْقِه إلا لمشركٍ، أو مُشاحِنٍ”.
وقد حملت واقعة تحويل القبلة التى حدثت فى هذه الليلة المباركة من بيت المقدس الى البيت الحرام العديد من الدروس والعِبر المستفادة منها ما هو دينى أو سياسى أو عسكري، حيث جعل هذا الحدث الجليل الجزيرة العربية محورا للأحداث، كما ربط العالَم بالإرث النبوى لأبى الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
ومن أبرز هذه الدروس التأكيد على الانتماء وحب الوطن حيث كان صلى الله عليه وسلم يقلّب وجهه فى السماء ويتمنى أن يتحول إلى قبلة أبيه إبراهيم فى مكة المكرمة إعلاء لشأنها.
وشهر شعبان اختصّه الحق تبارك وتعالى بالكثير من المميزات، حيث ربط فيه الأمّة برباط واحد ووحّد صفّهم وقِبلتهم، ففى هذا الشهر ليلة النصف من شعبان التى تحوّلت فيها القِبلة بعد أن كان اليهود يجتمعون خلف النبى صلى الله عليه وسلم ويقولون: ما لمحمد يتّبع قِبلتنا ولا يتّبع مِلَّتنا؟! فشكى النبى لربّه فنزل قوله تعالي: ” قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)” سورة البقرة.
فتوحَّد المسلمون جميعا من مشرقهم إلى مغربهم على قِبلة واحدة وربٍّ واحد ودين واحد، وبيان لحبّ رسول الله وانتمائه لوطنه وقِبلة أبيه ابراهيم عليه السلام وتأكيد لشرف مكة وعِظم منزلتها من خلال تحويل القِبلة الى الكعبة واستقبال المسلمين أينما كانوا لهذا البلد مهبط الوحى ومنطلق الرسالة ومقصد المسلمين فى حجّهم وعُمرتهم.
فهذه الليلة المباركة هى فرصة تاريخية لكل مخطئ ومقصِّر فى حق الله ودينه، وهى فرصة لكل من وقع فى معصية أو ذنب مهما كان حجمه، هى فرصة لكل من سوَّلت له نفسه التجرؤ على الله بارتكاب معاصيه، هى فرصة إذاً لإدراك ما فات، وبدء صفحة جديدة مع الله تكون ممحوة من الذنوب وناصعة البياض بالطاعة.
احرص أخى على ألا يدخلَ عليك رمضان إلاّ وأنت طاهِرٌ نقيّ، فإنّ رمضانَ عِطر، ولاَ يُعطَّرُ الثّوبُ حتى يُغسَل، وهذا زمنُ الغسل، فاغتسلوا من درَن الذنوب والخطايا، وتوبوا إلى ربِّكم قبل حلول المنايا، اتّقوا الشِركَ فإنه الذنب الذى لا يغفره الله لأصحابه، واتَّقوا الظلم فإنه الديوان الذى وكله الله لعباده، واتقوا الآثام فمن اتقاها فالمغفرة والرحمة أولى به.
يا من للناس عليك حقوقٌ، أدِّ الحقوقَ لأصحابها، ائت مرضاةَ الله من أبوابها، وإن رضا الله تعالى فى رضا الوالدين، وسخطه تعالى فى سخط الوالدين. أيها الشاب الواقع فى المعاصي، اعلم أن الشيطان لن ينتصر عليك بإيقاعك فى المعاصي، وإنما ينتصر عليك بتقنيطك وتيئيسك من رحمة أرحم الراحمين وبتسويف التوبة وطول الأمل.
تذكَّروا أنه فى ليلة النصف من شعبان سيحرم أناس من المغفرة والرحمة لأنهم ملؤوا قلوبهم حقدًا على إخوانهم، وجعلوا همَّهم التقاط العثرات لاتخاذها ذريعة ومبرّرًا للطعن فيهم وهجرانهم.
أين نحن من أخلاق السلف؟! وكيف نريد مغفرة الله وعفوه وقلوبنا مازالت مملوءة حقدًا وغلًا وشحناء؟!
أذكِّركم ونفسى بضرورة الصفح والتسامح قبل ليالى المغفرة كى لا نحرم ثوابها {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا. أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سورة النور: ٢٢]
وختاما:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ”، رواه ابن ماجة عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ.