الإسلام دين الرحمة والمودة والتكافل الاجتماعي، والتعاون على فعل الخير وسدّ حاجات المُعْوزين، ولذلك شرع من أعمال الخير والبرّ ما يحقق الأخوة الإسلامية والترابط الاجتماعي.
ومن الأعمال الخيرية التي تحقق هذه الأهداف: الوقف، وهو في اللغة العربية: الحَبْس، يقال وقفتُ الأرض على المساكين أو للمساكين وقفاً: أي حبستها؛ لأنه جعلها محبوسة لمن وقفها عليه، ولا يحق لأحد أن يتصرف فيها، فتظل العين الموقوفة ملكاً له ويمنع من التصرف فيها، وتكون غلّتها وثمرتها للموقوف عليه.
ويُطلق الوقف على التسبيل، فالوقف والتحبيس والتسبيل كلها بمعنى واحد.
وللوقف عند الفقهاء تعريفات كثيرة قريبة من المعنى اللغوي خلاصتها: حبْس مالٍ يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه وعدم التصرف في رقبته.
وألفاظ الوقف ستة، ثلاثة صريحة وهي المتقدمة، وثلاثة غير صريحة وهي: تصدّقتُ، وحرّمتُ، وأبّدْتُ، وتسمى كنايات الوقف.
ويشترط فيها: أن ينضمّ إليها ما يدل على أنه يقصد الوقف كأن يقول الواقف: صدقة موقوفة ولا تكفي النية، لأنها تجعله وقفاً في الباطن دون الظاهر لعدم الاطلاع على ما في الباطن.
وقد دل على مشروعية الوقف: القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، وفعل الصحابة رضي الله عنهم، فمن القرآن الكريم قوله تعالى: “لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ” آل عمران الآية 92.
عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة: فإنّ أحبّ مالي إليّ بيرحاء – وكانت حديقة يدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستظلّ فيها ويشرب من مائها – فهي إلى الله وإلى رسوله، أرجو برّه وذخره، فَضَعْهاَ يا رسول الله حيث أراد الله، فقال صلى الله عليه وسلم: بخٍ – وهي كلمة تدل على المدح والإعجاب وتكرر للمبالغة – يا أبا طلحة، ذاك مال رابح قبلناه منك ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رَحمهِ، أخرجه البخاري.
وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.
ورَوَى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمرُ أرضاً بخيبر فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله، إني أصبْتُ أرضاً بخيبر، لم أُصبْ قطُّ مالاً أنفس عندي منه، فما تأمرني فيها؟ فقال: “إن شئتَ حبّسْتَ أصلها، وتصدقت بها، غير أنه لا يُباع أصلها، ولا يُبْتاع، ولا يوهب، ولا يورث”.
قال: فتصدق بها عمر في الفقراء، وذوي القربى والرقاب، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها، أو يُطعم صديقاً بالمعروف غير متأثلٍ فيه أو غير مُتموَّلٍ فيه، أي غير جامع للمال” أخرجه البخاري ومسلم.
أهمية الوقف ومجالاته وآثاره
الأمة الإسلامية أمة متراحمة متعاونة متعاطفة، مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى، ومن هنا تنوعت أساليب التكافل بينها، منها الزكاة بأنواعها المختلفة، ومنها الصدقة، ومنها: الوصية، ومنها الوقف.
ولا شك أن للوقف دوراً مهماً في تنمية المجتمع وسدّ ما فيه من قصور في كل مناحي الحياة مثل: الإنفاق على طلبة العلم، ودور العلم، ومؤسساتها المختلفة، ومنها المراكز البحثية والكتب العلمية، وبناء المساجد وإعمارها، وبناء المستشفيات الطبية وتجهيزها بالأجهزة المختلفة، وشق الطرق، وحفر الآبار التي يستقى منها الماء، وكفالة اليتامى، ورعاية المسنين الذين لا عائل لهم، حتى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقفون على الخيول التي يعدّونها للجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضات الله تعالى كما في الحديث الشريف: “من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، فإن شبعه وريّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة”.
ومن مميزاته:
1- أنه قربة إلى الله تعالى خاصة في الجانب المادي الذي هو أحد دعائم بناء المجتمع.
2- أن ثوابه لا ينقطع كما في الحديث الصحيح: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، كما تقدم. ومنها: الصدقة الجارية المتمثلة في الوقف.
3- أنه سبب من أسباب بقاء المال ودوام الانتفاع به خاصة وأنه لا يجوز التصرف في العين الموقوفة.
4- أنه يحقق هدفاً سامياً في تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع.
5- أنه من أهم المصادر التي تحقق حاجات المعوزين وتفريج كرباتهم.
6- أن مجالاته كثيرة ومتنوعة كما تقدم.
7- ومن أهم مميزاته: أن المستفيد منه لا يشعر بالمهانة أو الذلة، بل يشعر بأنه شريك للمالك في هذا المال، وأن المالك معتقد بأن المال الذي أوقف ملك لله تعالى وهو مستخلف فيه وأمين عليه كما قال سبحانه: “آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ” سورة الحديد:7.
8- ومنها: أن الواقف للمال يشعر بأنه عضو نافع في المجتمع ولبنة مهمة في بناء الدولة المسلمة فيمدّ يد المعونة لإخوانه المحتاجين فيؤدي شكر النعمة التي أسداها إليه مالك السموات والأرض، وبالتالي يكافئه الله تعالى بالمزيد من النعم، فضلاً عن الأجر العظيم الذي ينتظره في الدار الآخرة، كما قال الحق تبارك وتعالى: “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ…” سورة إبراهيم:7.
وقد سعدت الأمة ونالت مكانتها حينما طبقت منهج الله تعالى بالصورة السابقة، ولما تخلت عنه ذلّت وهانت ومدت يدها إلى الأعداء فتحكموا فيها، واستطاعوا أن يحتلوا بعض بلدانها وسلبوا ثرواتها، والتاريخ شاهد على ذلك، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما ذلك على الله بعزيز.