كتبت العديد من المقالات رثاءً في علماء رحلوا عن عالمنا تكريماً لهم على جهودهم في خدمة الإسلام وكتاب الله العزيز، ولكن هذه المرة الوضع صعبٌ جداً علىّ، فالمغفور له بإذن الله العلامة المُصلح الشيخ الدكتور شعبان محمد إسماعيل أستاذ علمي أصول الفقه والقراءات بجامعة الأزهر وأم القرى بمكة؛ هو والدي، ومن هنا عجزت الكلمات وتاهت مني العبارات ألماً وحزناً على فراق الأب والعالم القرآني.
والدي العزيز إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا “إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ”، وبالرغم من ألم الفراق الذي يعتصرني كل لحظة حتى في منامي، ودموعي التي أصبحت لا تفارق عيوني “وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ”؛ إلا أن من واجبك علىّ وبراً بوالدي كما كنت تبرنا في حياتك، كتبت هذه الكلمات التي لن توفيك حقك أباً ومعلماً وعالماً قرآنياً، كما أمرنا الله تعالى ببر الوالدين حتى بعد وفاتهم، ولو جزء بسيط من كرمك وفضلك وتربيتك وعلمك وعطفك علينا.
والدي وتاج رأسي، انطفأت أنوار البيت بوفاتك، ولكن عزاؤنا الوحيد أن علمك وخدمتك للقرآن الكريم التي تجاوزت السبعين عاماً، مازالت تحيطنا في كل مكان في البيت، كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ”، وأشهد الله أنه رحمه الله أوصانا بالعمل على استمرار الصدقات وفعل الخير، كما أن علمه يملأ الدنيا، حيث كان مهموماً في الشهور الأخيرة من حياته بتوزيع معظم مؤلفاته التي طبعها على نفقته الخاصة على كليات جامعة الأزهر والطلبة والمُحبين، صدقة جارية عن علمه، وكلفني بهذه المهمة وأخوتي حتى ننال جزءاً من الثواب، نسأل الله تعالى أن يكون في ميزان حسناته.
رحل العالم القرآني والدي الغالي إلى قلبي بعد أن دعا أن يلقى الله تعالى ويختم مسيرته العلمية وحياته في خدمة القرآن الكريم، فكان له ما دعا حتى نال الأجر والثواب الكبير من الله تعالى، فأكرمه الله تعالى في خدمة القرآن الكريم وعلومه في محبط الوحي بمكة المكرمة مُعلماً لأئمة الحرم المكي ومؤسساً لقسم الدراسات العليا لعلم القراءات بجامعة أم القرى، وحين قرر العودة إلى مصر بعد أن داهمه المرض وكبر سنه، حزن عليه طلابه، كما بكت أرض مكة بموته.
ومن مآثره أنه كتب خطاباً إلى فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر قبل وفاته بأيام، وأنا شاهد على ذلك، يرجوا من فضيلتة تحقيق رغبته التطوعية وهي: مراجعة وقوف المصحف الشريف، كما قال عنها في خطابه الذي كتبته بنفسي “فلها بالتفسير علاقة وثيقة ومهمة، ولي بها اهتمام كبير من فترة طويلة استغرقت ما يقرب من 20 سنة التي قضيتها بجامعة أم القرى”، وأقترح رحمه الله تكوين لجنة لتحقيق هذا الغرض.
كما سعى رحمه الله إلى طباعة “تفسير الجلالين” الذي حققه في مكة، طبعة جديدة، بعد أن وفّقه الله تعالى على خدمة هذا الكتاب من ناحية القراءات، وتخريج الأحاديث، والتعليق على التفسير الذي يُخالف سائر المفسرين، ولكن حال الموت بينه وبين تحقيق رغبته.
مات والدي رحمه الله رحمة واسعة وقد تجاوز عمره 83 عاماً في خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، ليس ذلك بحسب، بل كان رحمه الله يؤمنا في صلاة فجر الجمعة وهي آخر صلاة جمعتنا به، وقرأ علينا في الركعة الثانية آخر آية من سورة الكهف قوله تعالى: “قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا”، وكأنه شعر بقرب الأجل، وأنه على موعد للقاء ربه تعالى، وبعد أن فرغ من الصلاة أجلسنا بجواره ونصحنا بالتمسك بفضيلة العفو اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلة الأرحام.
رحمك الله رحمة واسعة يا أبي وأسكنك فسيح جناته، جزاء ما قدمت من علم وخدمة للقرآن الكريم، ودفاعاً عن كتاب الله حتى قبل وفاتك بساعات، مما جعلك تدخل تحت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”، وأحسن الله ختامك بعد أن رأيت رسول الله في المنام قبل وفاتك بأيام كما أخبرتنا وهو يمسك بيدك، إن شاء الله إلى الجنة ونعيمها، فالعلماء ورثة الأنبياء، وكيف لا وسنده رحمه الله في قراءة القرآن يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم ألهمنا الصبر، وألحقنا به في دار النعيم، “إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ”.