لا توجد أمة تقف موقفاً سلبياً من لغتها كما يفعل العرب
بعض القضايا الفكرية تناقش فى مجالس العلم وليس على شاشات التليفزيون
العقليات التى تقود الأزهر الآن .. الجميع يعلم كفاءتها ورغبتها فى التطوير
قدمنا مشروع قانون للغة العربية .. لكنه لم يظهر للنور
أسماء المحلات واللافتات كلمات أجنبية بحروف عربية .. كيف يحدث هذا ؟
حوار: طارق عبد الله
طالب د. عبدالحميد مدكور، أمين عام مجمع اللغة العربية وأستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، بتكليف كل مبعوث للدراسات العلمية فى الخارج بترجمة كتاب فى تخصصه لنقل خبرات الأمم الأخرى دفعة واحدة ، وبالتالى نستطيع إزالة المسافة الهائلة الموجودة بيننا وبين التطور العلمى فى الغرب ، خاصة وأن الدول العربية ترسل عشرات الآلاف من المبعوثين إلى أوروربا وأميركا سنويا.. مشيرا إلى نجاح تجربة الشيخ رفاعة الطهطاوى فى عهد محمد على فى هذا الشأن حتى يغنى ويثرى مضمون اللغة العربية بالمصطلحات الحديثة. وقال : لا توجد أمة تقف هذا الموقف السلبى من لغتها كما يفعل العرب ، مستشهدا بفرنسا التى أصدرت قوانين تجرم استعمال أى لغة أخرى غير الفرنسية .. مشددا على ضرورة إلزام المدارس الأجنبية فى بلادنا بتعليم اللغة العربية تعليما يتكافأ مع مكانتها .
واستنكر – خلال حواره لـــ «عقيدتي» – الدعوات التى تطالب بتنحية التراث جانبا ، مؤكدا أنه لا يوجد فى العالم أمة تحتقر تراثها مثلما يحدث فى بلادنا .. مطالبا بضرورة أن تدرس هذه القضايا فى مجالس العلم وليس على شاشات التلفاز أو صفحات الصحف . وشدد على أن التأثر بالحضارات أشبه بنقل الدم ، إذا حدث أى خطأ فى مكونات الدم يموت الإنسان .. مستهجنا الدعوات التى تطالب بتطبيق الطبائع الغربية فى مجتمعاتنا العربية والإسلامية .
وأشاد بجهود الأزهر الشريف فى تطوير الكتب والمناهج القديمة .. مؤكدا أن العقليات التى تقود الأزهر الآن يعلم الناس مدى كفاءتها وذكائها وحكمتها ورغبتها فى تطوير هذه الكتب .. وفيما يلى نص الحوار : > فى البداية .. سألته عن قرارارت المؤتمر الأخير لمجمع اللغة العربية الذى دار محوره حول قضية «تعريب العلوم»، والتى مازالت حائرة بين النظرية والتطبيق ؟

>> فقال : هذه القضية التى تتمثل فى قضية التعريب الذى هو أمر ضرورى لكل أمة تريد أن تلحق بالركب العلمى الذى يسرع فيه العلم أيما اسراع .. نحن بيننا وبين الدول المتقدمة علميا الآن مسافات طويلة ، لا يمكن بحسب ظروفنا ان نقطعها خطوة خطوة ، ولكن التعريب يقصر المسافات ويقلل الجهود ويجعلنا نلحق بالركب ولو فى خواتيم هذا الركب ، فالتعليم قضية حضارية وإنسانية موجودة فى كل المجتمعات الإنسانية ، وقد كنت فى فرنسا أرى الكتب التى تؤلف فى انجلترا فى سنة ، تترجم إلى الفرنسية فى السنة التالية ، فليس هناك فروقا ولا مسافات ولا قيود فى نقل العلم والفكر والثقافة والخبرة الإنسانية من بلد إلى بلد خاصة وأن البشرية كلها تواجه مشكلات واحدة وعليها أن تتعاون جميعا لحل هذه المشكلات .. فالتعريب قضية لا نزاع فيها ، وضرورة حيوية إنسانية تقوم بها كل المجتمعات البشرية .. ونحن أصحاب تجارب ناجحة للتعريب فى مراحل متعددة فى تاريخنا ، ومن أهمها المرحلة الأولى التى وقع فيها تعريب العلوم فى عصر الدول الأولى فى الحضارة الإسلامية من أول الدولة الأموية حيث بدأت حركة التعريب وبدأت بتعريب العلوم التى ترجى فائدتها كالطب والحساب على سبيل المثال ، وهى علوم حيوية ، وعلوم الفلك ونحو ذلك من العلوم التى كانت فائدنها مؤكدة والمسلمون ينتفعون بها فى مجالات متعددة حتى فى مسائل الفقه والمسائل الشرعية ، وقد أقيمت ظاهرة عجيبة جدا فى ان الترجمة كانت شاملة مائة فى المائة لكل ما كان معروفا فى ذلك العصر ، يعنى ترجمنا من الهند ، الفرس، اليونان ، ومن السريان ، وترجمنا عن اللاتينية ، وعن النبطية ، ترجمنا عن لغات كثيرة وانتقل العلم الإنسانى فى الحضارات السابقة إلى العربية .. العرب لم يكن لهم باع طويل فى أمثال هذه العلوم العملية .. نحن عندنا باعنا الطويل فى العلوم الأدبية والشرعية واللغوية .. لكن علوم الطب وعلوم الهندسة والحساب والفلك والتشريح وغيرها ، كل هذه العلوم التى سبقت إليها أمم ذات حضارة أقدم من حضارة العرب ، حيث كان بها جامعات ومراكز علمية وفيها فلاسفة وحكماء وفيها وفيها .. إذاً كل هذا التراث الإنسانى انتقل إلى اللغة العربية ، ولكن الأمر الذى تميز به العرب المسلمون فى ذلك الوقت أنه كانوا ذى امة حيوية لا تكتفى بمجرد الترجمة ، وإنما تحول الترجمة إلى نقطة أساسية يرتكز عليها لكى يضيفوا إلى ما قدمته الأمم الأخرى عطاء جديدا لم يكن موجودا لدى الأمم السابقة.
أبدا لم يكن عندهم هذا الإحساس بالعجز الذى نعانى منه الآن .. هذه نماذج حدثت فى تاريخنا ، وهى نماذج مشرفة وتمثل واحدة من كبريات الترجمة على مدار التاريخ كله .. إذا ليس هناك عجز فى اللغة العربية ، وليس هناك تأخر عن الإحاطة والإدراك لمضمون هذه العلوم ، وليس هناك مانع من أن يتخذ هذا قاعدة للإنتقال إلى مراحل عالية وسابقة .
ثم حدثت مرة أخرى فى عهد الشيخ رفاعة الطهطاوى – رحمه الله – حيث كان هذا الرجل شيخا للبعثات التى أرسلها محمد على إلى أوروبا ، ولكنه تعلم اللغة الفرنسية ، وألزم كل مبعوث فى تخصصه أن يترجم كتابا من كتب هذا التخصص حتى يغنى ويثرى مضمون اللغة العربية بالمصطلحات الحديثة ، وكان المبعوث لايستطيع أن يدخل إلى مصر إلا ومعه هذا الكتاب الذى ترجمه .. هذا هو الأمر ، ونحن الآن طبعا المسافات بيننا وبين التطور العلمى هائلة ، لكن الآن عندنا إمكانات مهمة جدا لتحقيق هذه النقلة الكبرى التى ننقل فيها كل تراث العلم العالمى إلى اللغة العربية .
الترجمة وأهميتها
> وما هى الوسائل التى يمكن لنا أن ننقل بها التراث العلمى ؟
>> الوسيلة الأولى هى التكنولوجيا المعاصرة التى تجعل الحصول على العلم والوصول إلى العلم ميسرة ليست كما كان الشأن من خمسين أو مائة عام .. لكن لننظر الآن كم ترسل الدول العربية مبعوثين إلى الخارج .. آلاف مؤلفة ، فبعض الدول ترسل عشرات الآلاف فى كل التخصصات إلى العالم ، لو كلفنا كل واحد أن يترجم كتابا كما فعل الشيخ رفاعة الطهطاوى ، فانظر إلى الكم الكبير الذى سيترجم من خبرات الأمم الأخرى كلها وينقل دفعة واحدة غلى اللغة العربية بما فيه من مصطلحات وبما فيه من موضوعات وبما فيه من مناهج وبما فيه من نتائج علمية .. هذه مسألة ينبغى ألا تكون موضع جدل ولايصح أن نقابله فرادى نشعر بالعجز ونقول هذا ضحم وهذه هوة سحيقة لانستطيع أن تجمع بيننا وبين هؤلاء الناس ، لكن لابد أن نجتاز هذا العجز النفسى أمام الحضارات الأخرى الذى لم يكن يستشعره العلماء فى عصر الدولة العباسية ، حيث كان يرى أن هنالك بعض العلماء الهنود وضعوا تطبيقا علميا لجزء من علم الفلك عن الهند ، ويترجم هذا الكلام عن الهند إلى اللغة العربية ، فهو يأخذ القواعد الأساسية التى طبق عليها هذا الأمر فى الهند ويبنى عليه تصورا جديا للعالم الإسلامى الذى يعيش فيه ، هكذا كانت الرؤية عند العلماء فى حضارتنا الإسلامية قديما ، لكنها أصبحت مشكلة لدى علماؤنا الآن ، أكثرهم تعلم فى الخارج ومراجعه باللغة الأجنبية ويستسهل الكلام بهذه اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية ، لكن الآخرون قالوا لا .. اللغة العربية قادرة .. اللغة العربية التى جعلها الله وعاء لكتابه الكريم والتى حملت دقائق من الشعر والفن والأدب والوصول إلى درجات عليا من الكمال ليست عاجزة عن أن تتقبل العلم الإنسانى بشرط أن يكون العلماء متقبلين لهذا الأمر وبشرط أن يقوموا بجهد كالذى قاموا به فى مرحلتهم الأولى وفى تاريخهم الأول .
> أفهم من ذلك .. أن التجربة تستطيع أن تطبق ؟
>> ليست مستحيلة.
> إذٍن.. ما هى المعوقات ؟
>> كما ذكرنا آنفا .. أولا عدم تجميع الجهود ، وكون كل دولة فى العالم العربى تواجه المشكلة منفردة، يعنى دول مشغولة بحروب داخلية وحروب خارجية تواجه مثل هذه المشكلة صعب جدا أن يحدث ذلك ، لكن عندما يجتمع كل هؤلاء العرب تحت مظلة الجامعة العربية أو تحت مظلة المجامع اللغوية العربية أو تحت أى منظمة علمية وأن تنسق الجهود وأن تجمع كل الإمكانات التى يمكن أن تكون ، وأن توضع الخطط التى ترتب مثل هذه الأمور التى ليست سهلة ولكنها تحتاج إلى تنسيق وإلى جهود كبيرة جدا ، فهذا سبب أن كل أمة من أممنا وكل شعب من شعوبنا يواجه المشكلة وحده ، لكن إذا واجهناها جماعة عن طريق هذا القرار الذى تصدره هيئات سياسية فى العالم العربى ، كل مبعوث يخرج إلى الخارج يترجم لنا كتابا ، والدولة أنفقت عليه وأرسلته فمن حقها أن تطلب منه ما تشاء وأن تسخر أمره فى مثل هذا الأمر .. فإذا قبلنا المشكلة مجتمعين سيخف جزء من هذه المشكلة.
الأمر الثانى أن يعطى الترجمة مقامها فى التطور العلمى ، حتى الآن الترجمة لاتحتسب فى ترقيات الأساتذة ، إلا إذا قدم لها مقدمة علمية ونظرية ، لكن ليس مجرد نقلاً للكتب ، وهذه بداية التى يبنى عليه هذا العلم ، فلابد من إعادة الاعتبار فى مثل هذا الأمر .
الأمر الثالث .. الأمر يحتاج إلى انفاق كبير وإلى جهد.
الأمر الرابع .. على العلماء أنفسهم أن يستشعروا مسؤوليتهم أمام الله وأمام التاريخ وأمام الأمة وأمام الحاضر وأمام المستقبل بأن عليهم أن يبذلوا جهدا كالذى بذله السابقون ، وكالذى تبذله كل الأمم الأخرى .. وعلينا ألا نستشعر أن اللغة العربية عاجزة .. أبدا .. اللغة العربية من أكبر اللغات جذورا ومن أكثرها حيوية واستمرارا .. هناك لغات تمثل أحيانا دولا أقل من نصف مليون ولكن أهلها مصرون على أن يتعلموا العلم وأن ينقلوا العلم إلى لغاتهم وأن يدرسوا بلغاتهم .
> لكن تجربة تعريب العلوم فى سوريا شهد لها الجميع بالنجاح .. فما هو تقييمكم لها وهل يمكن تطبيقها فى باقى الدول العربية ؟
>> الحرص على اللغة ليس حاضرا فى أذهان الكثيرين الذين يقولون بأننا لايمكن أن نتطور إلا بإلتحاقنا بنظم أخرى حضاريا ، وهذا خطأ جسيم على الحاضر والمستقبل ، لأننا بهذه الفكرة المشوهة سنظل أتباعا لحضارات أخرى ، ولن نبدع أبدا ولن يكون لنا شأن .. خلال المؤتمر الأخير للمجمع نوقشت التجربة السورية فى تعريب العلوم وظهر أن هناك تجارب عربية أخرى ، فهناك تجربة فى الأردن ، وأخرى فى السودان ، وثالثة فى موريتانيا .. لكن كلها متفرقة ، لاتوجد رؤية واحدة ولا فكرة كلية جامعة ولاترتيب ولاتنسيق ، وياليت الجامعة العربية تجعل هذا من مهماتها ، وهذا له تأثير كبير جدا على وحدة العالم العربى من جهة ، وعلى حاضر الأمة والعربية ومستقبل اللغة العربية من جهة أخرى .
إعادة الإعتبار
