في كلمته خلال الجلسة الافتتاحية لمؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الثالث والثلاثين تحت عنوان : الاجتهاد ضرورة العصر (صوره .. ضوابطه .. رجاله .. الحاجة إليه) نائبًا عن فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب شيخ الأزهر، نقل أ.د/ محمد عبد الرحمن الضويني وكيل الأزهر تحيات فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب شيخ الأزهر وتمنياته للحضور الكريم بالتوفيق والسداد، مشيرًا إلى أن هذا المؤتمر الذي يحظى برعاية فخامة الرئيس/ عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية يأتي في إطار رعاية سيادته الدائم للفكر الوسطي وتجديد أدواته.
معربًا عن سعادته بهذا التوفيق الذي حالف المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف في طرح قضية في غاية الأهمية ألا وهي قضية الاجتهاد ومعالجتها في هذه المحاور الجامعة والتي ستكون أنوارًا كاشفة لهذا التحريف الذي لحق بهذا المفهوم المفترى عليه، مؤكدًا أن الاجتهاد مكون أصيل من مكونات هويتنا وحضارتنا، وكتب أهل العلم على مختلف عصورها شاهدة بأن العلماء الأمناء راقبوا ما يدور في جنبات أزمانهم بعين البصيرة والحكمة وتفاعلوا مع هذا الحراك الحياتي الذي يمكن أن نسميه الاجتهاد الواعي، وأن المتأمل لما كتبه هؤلاء العلماء الأجلاء يقف إجلالًا وتعظيمًا لهذه العقول المبدعة التي يسرت لنا فهم الدين ووضحت لنا طرائق الاجتهاد وبذلت أعمارها في بناء الحضارة وتشكيل ملامحها.
مؤكدًا أنه إذا كان هذا الاجتهاد الواعي فريضة حضارية فإنه كذلك ضرورة مجتمعية تشتد الحاجة إليه في وقت توصف فيه أحكام الإسلام وحضارته بالجمود والانغلاق، في وقت تتطلب فيه الحياة أحكامًا مرنة تستجيب للواقع من ناحية ولا تناقض الثابت المستقر من الأحكام من ناحية أخرى، مشيرًا إلى أن الاجتهاد الواعي ليس شعارًا أو تنظيرًا، وإنما هو ما ينقل الأمة من الكسل العقلي إلى حالة من النشاط الفكري الذي يمكن صاحبة من طرح رؤًى مبدعة تتوافق مع حاجة الإنسان المتباينة من عصر إلى عصر وتحفظ عليه إيمانه وعقيدته في مواجهة أمواج الفتن والمغريات، وأن هذا الاجتهاد الواعي دليل واضح على خصوبة الشريعة وسعة أحكامها بما يضمن الاستجابة لحاجات الناس مع المحافظة على حق الله (عز وجل)، موضحًا أن تطورات الواقع في كافة المجالات تنشئ الكثير من المستجدات ومع ذلك لا يباح لأي إنسان أن يتكلم في ما لم يحسن فهمه مدعيًا بذلك الاجتهاد، وأن العلماء القدامى مارسوا الاجتهاد بموسوعة فكرية كانت ضمانًا حقيقيًّا للتقريب إلى الصواب والعصمة من الزلل.
مؤكدًا أن عصرنا يحتاج إلى اجتهاد جماعي متعدد الرؤى من خلال علماء المجامع الفقهية بعيدًا عن الاجتهادات الفردية، وأن الواقع يفرض التخصص والمؤسسية والجماعية في الاجتهاد، وأن غير المؤهلين يتصدرون للكلام باسم الدين فيسيئون ولا يحسنون ولا يراعون حال الأمة ولا واقع المجتمع ومتطلبات الوطن، وأن الاجتهاد ضروري في كل زمان فالنصوص متناهية والحوادث غير متناهية، وأن الاجتهاد أشد ضرورة خاصة بعد ما حمله العصر من أدوات أتاحت المعلومات وسهلت التواصل بين العلماء والخبراء، مما دفع غير المؤهلين إلى التصدر ونشر آراء تأخذ بمن يقذف بها إلى غيابات التطرف المظلم دون التفريق بين القطعي والظني، والجزئي والكلي، مما يتوجب علينا الانتشار كمًّا وكيفًا عبر الوسائل المتاحة مع ضرورة التأسيس لاجتهاد جماعي يقطع الطريق على أي انحراف فكري مع وضع نظم للاجتهاد الجماعي المعاصر، للوصول إلى الدقة في التكييف وإدراك واع للواقع لنتمكن من التأصيل الشرعي والواقعي لغلق الباب أمام من لا يحسن الاجتهاد.
وأن ديننا رفع عن العقل الحجر والوصاية وأطلقه من أسر الوهم وقيود سوء الفهم وأن إعمال العقل مطلوب شرعًا، وأن العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأساس والشرع كالبناء، ولن يغني أساس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أساس كما قال الإمام الغزالي (رحمه الله تعالى)، موضحًا أن العالم اليوم بحاجة ماسة لانعقاد هذا المؤتمر الذي يعالج ويتناول قضية الاجتهاد، مشيرًا إلى أن الاجتهاد في عصرنا الحالي يقتضي أن يكون اجتهادا جماعياً ومؤسسيا لتعدد التخصصات العلمية وتشابك القضايا من علوم عدة ناهيك عما تتيحه الرقمنة من إمكانيات لم تتح لفقهائنا الأوائل، وأن تحقيق نهضة الأمة لا يكون إلا بالسير في خطين متوازيين، الأول: خط ينطلق من القرآن والسنة ثم مما يتناسب وقضايا العصر من كنوز التراث مع مراعاة التعدد في الفهم والفكر والرأي مما لا يخرج من قواعد المناهج المستقرة دون احتقار التفكير والنظر وقصر الحق في مذهب واحد دون غيره إذ مثل هذا الخطاب لم يعرفه الإسلام في أي عصر من عصور الازدهار أو الضعف، والثاني: خط مواز ننفتح فيه على الآخرين بهدف إكمال عناصر التقاء يمكن توظيفها في تشكيل إطار ثقافي يضم الجميع تحت إطار صيغة وسطى تحترم الهويات وتصون المجتمعات وتؤمن الأوطان بما لا يصادر فيه تراث على حداثة ولا تجور فيه حداثة على تراث، مشيرًا إلى أننا يجب أن نعمل على زيادة الوعي بما في الواقع من تحديات وأن نعرف ما يراد بأوطاننا وأمتنا وأن نقوي ثقة الناس في مؤسساتنا، وأن نستفيد من معطيات الواقع حتى لا نتخلف عن ركبه.