تنطلق فعاليات المؤتمر السَّنوي في دورته السَّابعة تحت عنوان “الفتوى وأهداف التنمية المستدامة” حيث يسلط المؤتمر الضوء على العلاقة الوثيقة بين التنمية المستدامة كمطلب عالمي مُلحٍّ في ظل ما نعيشه من أزمات متكررة، وبين الفتوى باعتبارها رؤية الشريعة الإسلامية لمستجدات الحياة.
لقد أدركت دولُ العالم بعد تجارب عدَّة خاضتها على مدى العقود الماضية أن التنمية الحالية تنمية استهلاكية غير مستدامة، بل ذات آثار خطيرة وكارثية، مما دفع المؤسسات الدولية للدعوة إلى نموذج تنموي بديل مستدام يعمل على تحقيق الانسجام بين تحقيق الأهداف التنموية من جهة، وحماية البيئة واستدامتها من جهة أخرى.
إن التنمية المستدامة تعني تلبية احتياجات الحاضر على جميع المستويات المادية والروحية؛ دون أن تتعرض قدرة وموارد الأجيال التَّالية في إشباع احتياجاتها للخطر، فهي تنميةٌ لا إفساد فيها، ولا إضرار أو إهدار للموارد، تنمية متوازنة، شاملة، تشاركية بدون إقصاء لأحد، تستخدم أفضلَ الوسائل المتاحة لإعطاء أفضل النتائج المرجوَّة.
وهذا المعنى للتنمية معنى شرعي ومطلب ديني بامتياز، بل هو من الثوابت التي لا تتغير، لا يختص بزمان أو مكان، يبرز في ضمن القاعدة الفقهية الحاكمة للفقه الإسلامي والفتوى وهي: درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، المأخوذة من كلام رب العالمين سبحانه في الأمر بعمارة الأرض وتنميتها والبعد عن سبيل المفسدين قال الله سبحانه وتعالى (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، أي طلب منكم عمارها. وقال تعالى (إن لا يحب المفسدين) وقال: (والله لا يحب الفساد). وقال: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين)
بل جعل الإسلام الكمال الديني والثواب الأعظم في استدامة التنمية لا لغرض، فقال ﷺ: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا؛ فيأكل منه إنسان أو حيوان أو طير إلا كان له صدقة» متفق عليه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وفي حديث أنس أيضًا «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها» أخرجه البزار في مسنده، فنلحظ في هذين الحديثين الشريفين التنمية المستدامة في أكمل صورها.
ولأن الطباع البشرية تختلف فقد قال سيدنا رسول الله ﷺ تشجيعا للناس في الزمان الماضي على التنمية وتوسيع رقعتها: «من أحيا أرضا ميتة، فهي له» رواه الترمذي.
إلى غير ذلك من النصوص التي تصل بنا لتحقيق القاعدة التي تقدم ذكرها: درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح.
إن الفتوى لا تتم إلا بتحصيل ركنيها من إدراك الشرع الشريف وفهمه الفهم الصحيح السوي الشامل لنصوصه وقواعده ومآلاته ومقاصده من ناحية، ومن ناحية أخرى إدراك الواقع ذي الطابع المتغيِّر بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص.
والإفتاء بهذه الهيئة عنصر فعَّال بصورة إيجابية في تحقيق التنمية المستدامة التي هي أمل الشعوب في الخروج من مآزقها الحالية.
فتحصيل الفتوى بشروطها وأركانها مؤثر وبصورة رئيسة في دحض طاعون العصر الحديث (الإرهاب) بكافة صوره وأشكاله، ومما لا شك فيه أن الإرهاب والتنمية المستدامة أمران لا يجتمعان، فقد عانت الشعوب والدول من ويلات الإرهاب وشره، وكان عائقا لمزيد من التنمية في بلادنا العربية، بل وفي بلدنا مصر الكنانة؛ لولا أن قيض الله سبحانه وتعالى جنودها البواسل من الجيش والشرطة في محاربته واستئصاله.
ومحاربة جرثومة الإرهاب من خلال تجربة دار الإفتاء المصرية الثرية، لا تكون إلا باسئتصال المناخ الذي تعيش فيه من الفقر والجوع والبطالة أو سوء التعليم و عدم المساواة، وهي الأهداف العالمية التي حددتها الأمم المتحدة التي إذا أمكن تحقيقها أمكن تحقيق التنمية المستدامة بشكل تلقائي، ولذا فإن انتشار الفتوى من الدور والمؤسسات الإفتائية الرسمية عاملٌ هام في تحقيق السلم والأمن على المستوىين المحلي والعالمي، وفي تحقيق التنمية المستدامة بأهدافها.
وبهذا فإن التنمية المستدامة ليست قاصرة على تعظيم الموارد المادية وزيادتها، بل تشمل التنمية تنمية الوعي والثقافة والعلم على المستوى الفردي والجماعي، استهدافا للارتقاء بالوعي الإنساني وبالحضارة الإنسانية.
هذا والفتوى تجعل من مقاصد الشريعة الإسلامية مبدأ ومنتهى لها، فهي منها وإليها، ومقاصد الشريعة من حفظ النفس والدين والعقل والعرض والمال متسقة تمام الاتساق مع تحقيق التنمية المستدامة، بل ما تقتضيه هذه المقاصد جعل التنمية المستدامة في مرتبة الضروريات، وهو المعنى الذي أدركته الشعوب والدول وتؤكد عليه.
ومما هو معلوم لكل عاقل مدرك لزمانه أن التنمية المستدامة لا تتحقق إلا بالتعاون والتكامل بين خبرات الدول وتجاربها، وأنه لا معنى على الإطلاق للاستئثار بالخبرات في تحقيقها، ولذا فإن تعزيز دور المؤسسات الإفتائية له دور هام في تحقيق التنمية واستدامتها، وذلك انطلاقا من قوله سبحانه وتعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
إن الفتوى بلا شك قادرة على التعامل مع كثير من القضايا التي تشغل الرأي العام المحلي والعالمي، بما تستمده من روح الشريعة، الأمر الذي يجعل من الفتوى والتنمية المستدامة صنوان لم يفترقا في الماضي ولن يفترقا في الحاضر إذا قام بذلك أهله، وهو ما يناقشه مؤتمر الأمانة من خلال محاوره الثلاثة: أولا: دور الفتوى في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. ثانيا: دور الفتوى في مواجهة معوقات التنمية. وثالثا: الفتوى ودعم الاقتصاد الوطني.