كثيرا ما تتعلق أبصارنا ونفوسنا وأرواحنا ببعض الأشياء، والحاجات، والأشخاص، ونظن – بقصور عقولنا – أن تخلف تحقق هذه الغايات هو الموت المحقق، دون تعمق في حكمة الله في الكون، وفي تدبيره المحكم ، ومن ثم لابد لنا من مراجعة أنفسنا حينا بعد حين، بتجديد الإيمان بقدرة الله عز وجل، والثقة بتدبيره المحكم قال تعالى:” يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ” الرعد:(2) ولأجل ذلك يقول البعض:” إذا أدار الله اتجاه سفينتك إلى اليمين فتأذيت وتألمت فاعلم أن اليسار كان موتك المحتوم، ثق بتدبير الله دائما” ويقول النبي :” ليس الْغِنى عن كَثرَةِ العَرْضِ وَلَكنَّ الْغنَى غنَى النَّفسِ” وفي رواية :” غنى القلب”
فمتى قدر الإنسان على الاستغناء عن الناس وما في أيديهم، وكذا الأشياء من حوله كانت طوع يمينه، وكان محط اهتمام وحب الناس وفي هذا المعنى بقول النبي :” ازهد في الدنيا يحبك الله عز وجل وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس”
ولقد أحسن العباس بن عبيد بن يعيش حيث يقول
كم من أخ لك لم يلده أبوكا
وأخ أبوه أبوك قد يجفوكا
وأقارب لو أبصروك معلقا
بنياط قلبك ثم ما نصروكا
الناس ما استغنيت كنت أخالهم
وإذا افتقرت اليهم فضحوكا
وجاء في حكمة الحكيم اليوناني ديوجونيس الكلبي قوله: “ليس الغنى بكثرة ما تملك إنما الغنى بكثرة ما تستغني عنه”
ويقول الرافعي:” ينبغي ألا تقدر ثروات الإنسان بأمواله ومستغلاته، بل بعدد الأشياء التي يستطيع أن يعيش غير محتاج إليها”
إن فقه الاستغناء لا يعني نشرَ ونثرَ ثقافة الانهزامية، ولكنه تجسيدٌ لفكرة التعالي عما هو غير ضروري، والاستغناء بالذات عن فائض الذوات، عندما ينعزل الإنسان مستغنيا بجواره مع ذاته، عن سائر الذوات، بحثا عن مساحة مفقودة من الصمت، وتوقا إلى التأمل في الكون، وعزوفا عن الإسهاب في التفاعل مع المحيطين، اكتفاء بالله عز وجل.ومن كلام الصوفية” ما أحسن الاستغناءَ باللهِ، و أقبح الاستغناءَ بالّلئامِ”
ويقول أبو علي الكاتب: إذا انقطع العبد على اللّه بكليته، فأول ما يفيده اللّه الاستغناء به عن سواه.
بل إن حقيقة التوحيد كما يقول البوشنجى معرفته ، كما عرّف نفسه إلى عباده ؛ ثم الاستغناء به عن كل ما سواه.وقال الشبلي عند بيان معنى الملك في قوله تعالى :”تؤتي الملك” الاستغناء بالمكوِن عن الكونين.
فما على الإنسان إلا أن ينظر بعين قلبه إلى الأسباب التي تستعبده وتتعبه فتلك التي يؤمر بقطعها حتى يستريح بروح اليقين ويتفرج بحياة الاستغناء.
قال الجنيد وقد سئل عن الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى: أتمُّ أم الاستغناء بالله تعالى ؟ فقال: إذا صحَّ الافتقار إلى الله عز وجل، فقد صح الاستغناء بالله تعالى، وإذا صح الاستغناء بالله تعالى كمل الغني به، فلا يقال: أيهما أتم الافتقار أم الغنى لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى.
وبالجملة فسلامة التوافق النفسي يكمن في الاستغناء عن الناس الذين يغمروننا بالألم والتوتر والقلق، ففي ذلك راحة نفسية فائقة، فقد حان الوقت إذن أن نحرر أنفسنا من عبودية أي شخص أومنصب، أو شيء لننعم بالهدوء، والطمأنينة، والأمن النفسي.
ألا ما أحوجنا إلى ترسيخ وتكريس فقه الاستغناء في حياتنا عن الأشياء والأشخاص وعدم البحث عن سرابات من الوهم ، تستعمر نفوسنا وقلوبنا وحياتنا، وننسى معها كل جميل من حولنا.
ألا ما أحوجنا إلى الاستغناء عن الناس الذين يغمروننا بالألم، والتوتر، والقلق، في محبة كاذبة، أو صداقة زائفة، فقد حان الوقت كي يحرر الإنسان نفسه من التعلق بأي شيء لينعم بالراحة والحرية المطلقة.
على أنه من المفيد أن نؤكد أن الإنسان كلما استعلى على الأشياء، واستغنى عنها، وزهد فيها، كلما توافدت عليه، فالعطايا تتوافد على المستغني، وتتمنع على الباحث عنها وتضن، كأنها تنتخب مستحقها وتنتقي الجدير بها،وتنأى عن المشتاقين إليها.
لأجل ذلك ينبغي أن نكرس هذه الثقافة في نفوسنا ونفوس أبنائنا، ونعلمهم الاعتماد على الذات والاستغناء بها عن سائر الذوات، والاكتفاء بالحق عن الخلق، وليتأكد كل إنسان أن كل اتكاء على جدار بشري -سوى الله عز وجل- هو سقوط مؤجل لا محالة.
حفظ الله مصر** حفظ الله الجيش