حياة الإنسان في الدنيا حياتان: حياة البدن الناشئة عن نفخة الملَك في رحم الأم، وحياة القلوب الناشئة عن قبول هدي السماء، قال تعالى:”إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ” ق:(37)
وكلما كان الإنسان متَّبعا ومستجيبا لهدي السماء كان قلبه نابضا بالحياة ويفتح له ما لايفتح لغيره، بحيث يطلعه الله عز وجل على ملكوت السموات والأرض، ولذلك قالوا: قلوب العارفين لها عيون* ترى ما لا يراه الناظرون.
لأجل ذلك نجد النبي e يقول:” ألا وإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إذا صلَحَتْ صلَحَ الجَسَدُ كلُّهُ وإذا فسَدَتْ فسَدَ الْجسَدُ كلُّهُ ألا وهِيَ الْقلْبُ” هذا القلب يورث صاحبه سلامة تؤهله لدخول الجنة قال تعالى:” “يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ،إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” الشعراء:(88-89)
وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام :”وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ،إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ” الصافات:(83-84) وقال عز من قائل :”مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ”ق:(33) وقال:” وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ “التغابن:(11)
وهذه المضغة التي أودعها الله في صدر العبد، تستمد حياتها ونورها، وبصيرتها، وهيامها في ملكوت السموات والأرض من مادة الطاعة التي جعلها الله سببا لذلك، كما تستمد القلوب رانها، وظلامها، والطبع عليها،ومواتها من مادتها المسببة لذلك من معاصٍ وكبرٍ،وإعراض عن الله سبحانه وتعالى.قال العلامة التستري:”إن القلب رقيق يؤثر فيه كل شيء، فاحذروا عليه واتقوا الله به”
لأجل ذلك كانت الذنوب مميتة للقلب، ممحقة لنور الرب، تلقي عليه من سدول الظلام ما يجعله يتنكب جادة الصواب، وينكص على أعقابه القهقري، قال تعالى:” فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” الحج: (46) والكبر والتجبر مادتان تتسببان في أن يطبع الله على قلب العبد:”كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ” غافر:(35)
وعن عبد الله بن المبارك، أنه كان يتمثل: ركوب الذنوب يميت القلوب ،وقد يورث الذل إدمانها ،وترك الذنوب حياة القلوب، وخير لنفسك عصيانها.
إن الأمراض التي تعتور القلوب، تورث شغفا بالمعصية، وإقبالا عليها، وإدبارا عن الله سبحانه وتعالى قال عز وجل:”فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ” الأحزاب:(32) كما أن الإسراف في اتباع داعية الهوى،سبب في ضلال القلب، وعتمته، والطبع عليه، بحيث لا يرى نور الهداية أبدا، قال عز من قائل:”أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ” الجاثية :(23)
يقول الحارثي:” وينبغي أن يكون قلبه في همّه ، وهمّه مع ربّه ، وربّه في قلبه ، فينظر إليه من كلامه ، ويكلمه بخطابه ، ويتملقه بمناجاته ، ويعرفه من صفاته ”
هذا وإن الإنسان كلما أسرف على نفسه في الشهوات، وتنكب جادة الصواب، حيل بينه وبين الهداية قال عز وجل:”وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ” الأنفال:(24).
قال الشوكاني:” ومعناه أنه مطلع على ضمائر القلوب لا تخفى عليه منها خافية واختار ابن جرير أن هذا من باب الإخبار من الله عز وجل بأنه أملك لقلوب عباده منهم ،وأنه يحول بينهم و بينها إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئته عز وجل”
قال الرازي:” والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ، فإذا أراد الكافر أن يؤمن والله تعالى لا يريد إيمانه يحول بينه وبين قلبه. وإذا أراد المؤمن أن يكفر والله لا يريد كفره حال بينه وبين قلبه”
ومن أهم خصائص القلوب أنها بيد خالقها المسيطر عليها، الذي يقلبها كيف يشاء، روي عن أنَسٍ قال: كان رسول اللّهِ e يُكثِرُ أنْ يقُولَ: يا مُقلِّبَ القُلُوبِ ثبِّتْ قَلبِي على دينِكَ فقلت: يا رسُولَ اللّهِ آمنَّا بكَ وبِمَا جِئتَ بهِ فهَلْ تخَافُ عَلَينَا؟ قال: نعم ،إنَّ القُلُوبَ بين إصبعين من أصَابِعِ اللّهِ يُقلِّبُهَا كَيفَ يشَاءُ” بحيث يقذف فيها نور الهداية والصلاح والإيمان لمن أراد، وظلمة الضلال والكفر لمن شاء، دون أن يكون للإنسان سلطان على قلبه في أن يمنع أو يمنح، أن يحب أو يكره، من ذلك ما ورد عن أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللّهِ e إنَّ اللّهَ تبَارَكَ وتَعَالَى إذا أحَبَّ عبْدًا نادَى جبْرِيلَ إنَّ اللّهَ قد أحَبَّ فُلانًا فأَحِبَّهُ فيُحِبُّهُ جبْرِيلُ ثمَّ يُنادِي جبْرِيلُ في السّمَاءِ إنَّ اللّهَ قد أحَبَّ فُلانًا فأَحِبُّوهُ فيُحِبُّهُ أهْلُ السّمَاءِ ويُوضَعُ له الْقبُولُ في أهْلِ الأرض” وهذا الحب والقبول في الأرض بوضع الله محبته لهذا العبد في قلوب عبادة رغما عنهم، لأن سلطان قلوب عباده بيده وحده دونهم، وهي نعمة ومنحة تستوجب التقدير، والشكر، وعدم الاغترار، لمن قاد القلوب إليك قادر على أن يحولها عنك :” واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه”.
حفظ الله مصر** حفظ الله الجيش