من الحقائق اللازمة في دنيا الناس أن الإنسان يحتاج من حين لآخر إلى من يذكره بماضيه، ويبصره بواقعه، ويوجهه إلى إنماء فكره واستشرافه لمستقبله، وبيان وقائع عصره الملامسة لحاضره الذي هو وعاء فكره وآماله، ومحل علومه وأحلامه، وذلك على نحو يحقق مقصود هذه التذكرة في الوطن الذي يعيش فيه، وفي العالم بأكمله.
واليوم يحتفل المصريون بمرور ١٠٨٣م عاما على افتتاح الأزهر الميمون، ١٠٨٣ عاما من الشموخ والعطاء والإنماء، فضلا عن الدفاع عن قضايا الإنسانية المتناقضة، الدائرة هنا وهناك، الأمر الذي يستوجب القول بأنه إذا كانت مصر هبة النيل فإن الأزهر الشريف في مصر أيضا هو كعبة العلم، والوارث لعلوم الوحْيَيْن الشريفين والمصدرين الكريمين، كتاب الله -عز وجل- وسنة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- وهو القائم على نشر رسالة الإسلام، التي هي رسالة السلام إلى الإنسانية كلها.
وهنا نذكِّر القارئ الكريم بأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذكر مصر فِي القُرْآنِ الكرِيم عدة مرات تكريما وتعظيما لشأنها، فقد اختار الله مصر لِتكون وسطا بيْن شعوبِ العالمِ، رسالة وفكرا، تعليما وتثقيفا، وهو ما جعل لمصر مكانة عَظِيمَة بيْن الأُمم، بل في قلوب الناس جميعا، وبهذا فقد شاءت قدرة الله -عز وجل- وحكمته أن يتم تشييد هذا الصرح العلمي الكبير ( الأزهر الشريف ) على أرضها المباركة فازدادت مصر بهذا الجامع العتيق مكانة فوق المكانة، ورفعة فوق الرفعة، وتكريما فوق التكريم.
من هنا كان للجامع الأَزْهَر مُنْذ نَشْأَتِهِ وحتى الآن دوره الرئيس في صون مصالح الإنسان المختلفة، وتلبية حاجاته المتعددة، بقطع النظر عن جنسه أو لونه أو لسانه؛ وذلك لأن رسالة الأَزْهر الشريف هي رسالة عالمية على أرض مصرية، تقوم في أصلها وجوهرها على تقرير روابط الوحدة، وتنمية الألفة، في الأوساط الإنسانية كلها، باختلاف أنماطها وتباين أجناسها، حيْث عمل الأزهر الشريف منذ النشأة الأولى على التوفيقِ بِين المَذَاهِب الفقهية والفكرية المختلفة، في ربط عجيب، وتوثيق عميق، وتوفيق دقيق،؛ تحقيقًا لمقصود رسالته السامية، وهي حمل النفع والخير لجميع الإنسانية وصون مصالحها المتعددة، باختلاف الزمان والمكان، والأحوال والأشخاص.
هذا، وقد قيَّد الله لهذا الأزهر العتيق رِجالًا فِي مُخْتَلِفِ الأزمنة التي مرَّت والأزمات التي طرأت على مصر، فكانوا هم الملاذ الأوَّل- بحق- والركن الشديد الأوحد في التحول من دائرة الطيش والهوى إلى دائرة الرشد والحكمة، وخير دلِيل على ذلك مواقف شيوخ الأزهر من مواجهة الحمْلة الفرنسية وغيرها، وما صاحب ذلك من أحداث مضنية، وقيود على الحريات عادية، وغطرسات عاتية، فقد استطاع رِجال الأَزْهَر الشَّرِيفِ -والحالة هذه- الحفاظ عَلَى الوَطَنِ، أرضًا وعرضًا، جنبًا إلى جنب مع جيش مصر العظيم، وأبطاله البواسل، وأُمنائِه الثقات، ورجاله الأحرار، وأبنائه الأبرار، فقد قاوموا كل طاغية، وعادية، وعاتية، بالفكر تارات، وبالقوة تارة أخرى.
كما أن الأَزْهَر الشريف حافل في تاريخه بنماء علومه الشرعية والعربية، وغيرها من العلوم الإنسانية، الَّتِي تخدم المجتمع الإِنْسَانِي، مَحَلِيًّا وَإقليميًّا ودولِيًّا وعالميًّا، كما أنه غني بعلمائه وفقهائه أصحاب القيادة والريادة، فِي الأوساط المتعددة، والمجالات المختلفة في مصر وَالعالم.
وأخيرًا:
أقول لكل المصريين في الداخل والخارج يَحقُّ لكم أن تفْتَخِرُوا بأزهركم الشريف، الذي هو مصدر علمكم ونوركم، وقوة حجتكم، ورقة طبعكم، وجزالة رأيكم.
حفظ الله مصرنا الحبيبة وأزهرنا الشَّرِيف وشيخه الجليل وطُلَّابه وَمُعَلِّمِيه مِنْ كُل مكروه وسوء، وزادهم علما وحكمة، وجعلهم دائما سفراء حق، وحكماء عدل للإنسانية جمعاء، في جميع الأمكنة، ومختلف الأزمنة