تحدثت فى المقال السابق عن أولئك الذين استقاموا فى رمضان، واجتهدوا فى فعل الطاعات، وأداء النوافل، وترك ما كانوا يرتكبونه من معاص قبل رمضان، وإذا بهم يعودون بعد رمضان إلى سيرتهم الأولى من الفسوق والعصيان، وكأنهم كانوا يعبدون رمضان، لا رب رمضان، فمن كَان يعبد رمضان فإن رمضان شهر يولى وينقضى، ومن كان يعبد رب رمضان، فإنه حى لا يموت.
وهؤلاء الذين عادوا إلى ماكانوا عليه قبل رمضان، مثلهم مثل امرأة اجتهدت فى الغزل بجد واجتهاد، حتى أنتجت غزلا قويا، وفجأة توقفت المرأة، ونظرت إلى غزلها، ثم انهالت عليه نقضا حتى إذا أفسدته وأعادته خيوطا كما كان، تبدأ فى الغزل ثم النقض مرة أخرى.. وهكذا دأبها، فمثلها مثل الذين يفعلون الخير في رمضان ثم إذا انقضى عادوا إلى سيرتهِم الأولى، وكأنهم لم يتعلموا شيئا من الصيام والقيام، ولم تؤثر فيهم روحانيات الشهر الكريم المعظم.
فمثلا قراءة القرآن الكريم ورد فيها ما ورد من الأجر العظيم، ومع ذلك نجد تقصيرا كبيرا في أداء هذه العبادة الجليلة خلال العام، بل ربما هجرها تماما كثير من الناس، فإذا جاء رمضان وجدت الجميع يحرصون على قراءته، فمنهم من يختمه كل ثلاثة أيام، أو كل أسبوع، وكثير من الناس لا ينقضى رمضان إلا وقد ختمه كاملا.
جاء سفيان بن عبد الله الثقفى إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، قل لى فى الإِسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: “قل: آمنت بِالله، فاستقم” (رواه مسلم).
وقال الحسن البصرى رحمه الله: “إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت” ثم قرأ قوله تعالى: “وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ” (الحجر: 99).
إن من ذاق لذة الطاعة لا يمل العبادة، وهنا نستحضر قول الله تعالى: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (النحل:٩٧)، فالحياة الطيبة هى لذة المناجاة لله، وقوة الاتصال بالله، والثقة بالله، والاعتماد عليه، والأنس بطاعته، والراحة فى القيام بما أوجب الله.
إن الحياة الطيبة لا يحققها جاه، ولا سلطان، ولا مال، ولا بنون، ولا عمر مديد، وإنما يحققها الارتباط بالله جل وعلا.
إن شهر رمضان، الذى صمنا نهاره وأحيينا ليله ومارسنا فيه العديد من الفرائض والنوافل، وانتهينا عن معاص كثيرة ربما كان البعض يقع فيها قبل رمضان، فهذا الموسم كفيل بأن يبقى أثرا كبيرا على المسلم فيجعله أكثر قربا لربه وأعظم شوقا لجنته وأبعد ما يكون عن سخط ربه.
ولا يشترط أن نكون بعد رمضان كما كنا فيه تماما، فنحن نعلم أن ذلك موسم عظيم للطاعات لا يأتى بعده مثله، إلا رمضان الذى يليه، ولا يأتى شهر فيه خيرات ومغفرة ورحمة وعتق كما فى هذا الشهر العظيم، لذا لا أقول كونوا كما كنتم فى رمضان تماما، من الاجتهاد فى العبادة وفعل الخيرات والطاعات، فالنفس لا تطيق ذلك، لكن فى الوقت نفسه لا ينبغى الانقطاع عن الأعمال الصالحة بالكلية، بل يجب الحفاظ على الفرائض، وهجران النواهى، وإتيان النوافل قدر الطاقة، وذلك أدنى ما ينبغى أن يحرص عليه المسلم بعد رمضان، فعلينا فى كل الأحوال أن نعود أنفسنا على ما يقربنا إلى الله، ولنصبر على ذلك.
اللهم تقبل طاعتنا فى رمضان وفى غير رمضان، ووفقنا للاستمرار فى حسن عبادتك، ولا تجعلنا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، واجعلنا من عبادك المتقين المخلصين.