طريق الصواب فى نظر الإسلام وكافة الديانات السماوية هو تعارف البشر بعضهم بعضاً، وسعيهم نحو النور، لينتشر الخير وتعم المنفعة، ويحيا الناس فى سلام ووئام، قال تعالى “ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إننى من المسلمين” سورة فصلت الآية 33.
و القول الحسن أن تدعو إلى الله، والدعوة إلى الله هى نشر الفضيلة، والسعى نحو إسعاد البشرية بعمل الخير والاستقامة فى كل أمورالدين والدنيا ونلاحظ أيضاً أن الآية ربطت ذلك بالعمل الصالح، فليس من المقبول أن تدعو إلى الله ثم تسيء المعاملة، أو تتقاعس عن فعل الخير، فتلك صفة المنافقين، وهم من وصفهم المولى سبحانه وتعالى بأنهم فى الدرك الأسفل من النار، ولم يقل الكافرين…إذ لا بد أن يكون القول الحسن مترجم بالعمل الصالح، وإلا يُردّ على القائل قوله مادامت تلك الأقوال مخالفة لأفعاله، ومتضاربة معها، وينطبق عليها قول القائل:-
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
فهم يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم.
ولدوام الخطاب الدينى المنشود واستقامته، لا بد من شرح الإسلام كما أراده الله سبحانه وتعالى المتسم بالوسطية، بلا غلو أو تشدد، فإن الإسلام يحب الوسطية فى كل شيء ،الوسطية فى السلوك الإنساني، فلا يشتط الإنسان فى علاقته بالغير، ولا يهمل إلى حد التسيب وقدأجمل ذلك القرآن الكريم فى قوله تعالى “ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط” سورة الإسراء الآية 29، فلا إفراط ولا تفريط أو إمساك بغير معروف…الإفراط تطرف وإهمال فى الالتزام بقواعد ضرورية لإدارة الحياة، والإمساك منع عن عمل الخير وإهمال له، كما أن الإسراف فى الطعام والشراب يحدث تخمة تُغيب العقل وتصنع الكسل، كما أن الإفراط فى العمل والتعب الزائد يؤدى إلى هلاك الجسم وإضعافه، ويكون صاحبه كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، والقول المأثور أن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع.
ولما كانت العبادة فى الإسلام من أفضل الأعمال لارتباطها بعمل الخير وبناء الحياة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فقد حث الإسلام على الوسطية فى أدائها، ولاستمرار الامتثال إلى حسن العبادة والخضوع لمالك الملك، لا بد أن تؤدى بلا تشدد أو تهاون، فالإسلام يرفض منهج المفرطين الذين يتهاونون فى أمور دينهم، ويعرضون عنها، فيستبيحون المحرمات، ويهملون الواجبات، ويؤثرون الشهوات، ويأخذون أمور الدين باستهتار بالإهمال والتقصير مع أنهم يهتمون بأمور الدنيا كل الاهتمام. كما يرفض الإسلام الإسراف حتى فى تقرب العبد إلى مولاه بعيداً عن الوسطية التى هى منهج الإسلام.
ويحمل القرأن الكريم إلينا آيات عديدة تحث على التوسط فى العبادة، قال تعال “طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى” ، وقال “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” وقال “يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً”، وقال “ما جعل عليكم فى الدين من حرج”.
وقال الرسول المعلم يوجه المسلمين إلى طريق الوسطية ويحثهم عليها فى هتاف إنسانى جميل “إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه”، وزاد فى تحذيره “إياكم والغلو فى الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو فى الدين” ، مؤكداً قول المولى سبحانه وتعالى “يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثرا وضلوا عن سواء السبيل” المائدة الآية 77.
ونأتى إلى قمة الخطاب الدينى وهى التوجيه والإرشاد وبمعنى آخر (الوعظ)، حث الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الإمام فى الصلاة، والخطيب فى خطبة الجمعة أو فى العيدين رؤوفاَ بالناس حتى لا يمل أحد منهم، وتصبح صلاة الجماعة لهم هماً ثقيلاً، وسماع الخطبة عذاباً أليماً.
كان صلى الله عليه وسلم لا يطيل فى صلاته حين يؤم الناس، وما أطال فى خطبته أكثر من خمس دقائق، والكتب التى جمعت خطبه تشهد بذلك، وما أطال فى صلاة إلا إذا كان منفردأ أثناء الليل، ومع ذلك كان يقول “أصوم و أفطر وأقوم الليل وأنام وأتزوج النساء وهذه سنتى ومن رغب عن سنتى فليس مني”، قال ذلك حين سمع أن بعض الصحابة حرم على نفسه الاقتراب من النساء، وامتنع عن النوم لقيامه، ويصوم الدهر كله.
ما رأينا إطالة فى وعظ وإرشاد أتت بنتيجة تفوق نتيجة القليل المفيد الذى لا ينسى بعضه بعضاً، فعندما يطيل الخطيب فى خطبته فربما يسأم الناس ويمل ، وينسون فى آخر الكلام أوله، ومن ثم لا تجدى الإطالة، وكان ابن مسعود يذكر الناس كل خميس فطلب منه أحد أصحابه أن يذكرهم كل يوم، فأجابه الصحابى الجليل تلميذ محمد صلى الله عليه وسلم أكره أن أملكم وأنا أفعل كما يفعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يصيبنا السأم.
هذه ملامح الخطاب الدينى المنشود الذى نود أن تناقشه جلسات الحوار الوطنى متسماً بالوسطية فى العبادة وفى أمور الحياة، وفى الوعظ والإرشاد، وفى أداء العبادات، بما لا يخرج عن جوهر الإسلام وروحه، ودون تطرف فى الاتباع والسلوك، أو انحراف عن المنهج الربانى القويم الذى به تنصلح حياة الناس فى طريق الاستنارة والرقي.