بعد هذا الموقف المريب الغريب من الدعوة إلى الصلاة على الحبيب – صلى الله عليه وسلم – أيقنت بما لا يدع مجالا للشك أن الطريق مازال طويلا فى مشوار تصحيح المفاهيم الخاطئة التى يتناقلها “المتسلفون” أدعياء السلفية، على أنها الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما لو كانت الفتوى التى يتمسكون بها أو الرأى الفقهى الذى يتناقلونه آية قرآنية محكمة لا تحتمل التأويل، رغم أنها اجتهاد بشرى من فقيه كانت تحكمه أحوال وظروف وزمان ومكان وعادات مجتمع، وكلها عوامل لا بد أن يراعيها العالم المجتهد حين يصدر فتواه فى أى قضية، وذلك ثابت منذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتابعه فى ذلك الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وأستطيع القول: إن العلماء أصحاب هذه الفتاوى القديمة، التى يتناقلها أصحاب العقول المغلقة والأفهام القاصرة، إذا كانوا يعيشون بيننا الآن لكان لهم رأى آخر وفقه آخر.
والفقه أوسع وأشمل من الفهم، ولا يتسع المقال لتفصيل الفرق بينهما، ومن أراد أن يعرف الفرق، فليرجع إلى علماء اللغة وعلماء التفسير، و”من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين”، وكل زمان له علماؤه وفقهاؤه إلى يومنا هذا، ولكن يصر البعض أن ينقلنا إلى زمان آخر غير زماننا، ويحكمنا بما صدر فيه من فتاوى لا تصلح لهذا الزمان، ويترتب على ذلك أنه يعيش بمعزل عن مجتمعه ويخوّن علماء عصره ويتهمهم بما ليس فيهم، ويشكك فى علمهم لمجرد أنهم خالفوا الفتاوى القديمة المحفوظة فى بطون الكتب، فكانوا أشبه بمن يريد أن يعود بنا إلى الكتب القديمة فى علم الطب مثلا ويتمسك بما فيها من أساليب علاجية، ويريد أن يطبقها فى عصر مختلف، وهو لا يدرى أن الزمن قد تخطاها، وأن العلم تقدم ولم تعد تصلح هذه الأساليب للتطبيق، ليس طعنا فى القديم، وإنما لأنه كان يناسب عصره ولم يعد يصلح لهذا العصر.
الخطير فى الأمر أنك تجد تلميذا ما زال يحبو فى ساحة العلم، ينتقد عالما جليلا مجتهدا فقيها، لمجرد انه خالف فتوى يحفظها أو قرأها فى كتاب قديم!.
وللأسف الشديد هذه النوعية موجودة بكثرة، وتجد من وسائل التواصل مجالا خصبا لترويج ما يعتقدون أنه الصواب، ويتضح ذلك جليا مع كل مناسبة أو دعوة يظنون أنها على غير مثال سبق فى عصر النبوة، وكان آخرها الدعوة التى أطلقها وزير الأوقاف، للصلاة على الرسول فى كل مساجد مصر بعد صلاة الجمعة الماضية، التى كان موضوعها فضل الصلاة والسلام على خير الأنام سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – فاعتبروا ذلك بدعة ضلالة، ولا حول ولا قوه إلا بالله.
لابد أن يدرك الجميع إدراكا جيداً أن المسألة الواحدة قد يختلف حكمها الفقهى باختلاف الزمان والمكان والمستفتى وأحوال الناس وعادات مجتمعهم، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصي، ويكفى أن أذكر مثالا واحدا فقط حدث على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وورد عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ فيما أخرجه أبو داود فى سننه: “أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم ـ عن المباشرة للصائم، فرخص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذى رخص له شيخ، والذى نهاه شاب”، ومن هذا الحديث استنبط العلماء أن مناط الحل والحرمة فيما يمكن أن يترتب على القبلة، ولا شك أن قبلة الشيخ الذى “يملك إربه” أى يتحكم فى شهوته، غير قبلة الشاب الذى قد يتمادى ويقع فى المحظور.
هدى الله النابتة والمتسلفة إلى ما فيه خيرى الدنيا والآخرة.