الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة حدث محوري في تاريخ الإسلام، وتحول فريد في تاريخ الإنسانية، أمر به الله ـ سبحانه وتعالى ـ وقاد تنفيذه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واشترك فيه الرجال والنساء من أتباع الإسلام. وكما كان للرجل دوره في هذا الحدث التاريخي، كان للمرأة نصيبها في ذلك؛ استجابة لتوجيه ربها وتنفيذا لأمر نبيها، وتضحية في سبيل دينها.
وأحداث الهجرة الشريفة وتجلياتها تظهر كثيرا من أبعاد دور المرأة المميز فيها، من السبق والمبادرة، والتضحية، ومواجهة المخاطر، وتجهيز قائد الهجرة ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه، وإثارهما على نفسها. على ما يأتي:
أولا: كانت في مقدمة المهاجرين إلى المدينة، ومثلت هذا البُعد السيدة لَيْلَى بِنْتُ أَبى حَثْمَةَ زوج عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، ففي رواية الواقدي أن أول من قدم المدينة هو أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ المخزومي، ثُمَّ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ومَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبى حَثْمَةَ.
ثانيا: التضحية بالتفريق بينها وبين طفلها وزوجها، ومثلت هذا البُعد السيدة أم سلمة؛ حيث تسبب النزاع بين بني المغيرة قوم أم سلمة، وبني عبد الأسد قوم زوجها أبي سلمة، على هجرة أم سلمة مع زوجها، تسبب في خلع يد ابنها الطفل سلمة أثناء تجاذبه من قبل رجال القبيلتين، واحتجاز قوم أبي سلمه للطفل ومنع أمه منه، وكذلك احتجاز قوم أم سلمة لها والتفريق بينها وبين زوجها في الهجرة معه. وظلت أم سلمة تعاني حرمانها من طفلها وزوجها أشد المعناة سنة كاملة، فكانت تخرج كل غداة فتجلس بالأبطح فما تزال تبكى حتى تمسى، حتى أذن الله لها بجمع شملها مع ابنها وزوجها فهاجرت هجرة جسدت فيها تضحية أخرى، كما يتبين في البعد الآتي:
ثالثا: مواجهتها للمخاطر بالغة الأثر في سبيل الهجرة، ومثلت هذا البُعد السيدة أم سلمة ـ أيضا ـ في الطور التالي لقصة هجرتها، فقد مر ـ سابقا ـ ما آل إليه أمرها وما تعرضت له هي وطفلها وزوجها، نتيجة لموقف قومها وقوم زوجها من هجرتها. أما الطور التالي وهو مواجهتها للمخاطر بالغة الأثر، فتمثل في هجرتها مع رجل كان مشركا ـ آنذاك ـ وهو عثمان بن طلحة بن أبى طلحة، مسافة تزيد على أربعمائة كيلو متر في صحراء شاسعة لا أنيس معهما ولا ذو رحم ولا غير ذلك، وهي تعلم عداء المشركين لها ولأمثالها من المؤمنين، وما يمكن أن يلحقها من الضرر والأذى من ذلك. لكن الله سخر هذا المشرك ليكون حارسا لها محافظا عليها.
فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبى سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.
رابعا: تجهيز النبي وأبا بكر بمتطلبات الهجرة، ومثل هذا البعد السيدتان عائشة وأسماء بنتا أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهم جميعا ـ تقول السيدة عائشة عن ذلك عندما جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى منزل أبي بكر وأعلمه بالهجرة، تقول ـ كما في رواية البخاري: “فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبى بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ”.
خامسا: إثار المرأة النبي وصاحبه على نفسها، ومثل هذا البعد السيدتان عائشة وأسماء بنتا أبي بكر الصديق ـ أيضا ـ ، وهذا البعد يتمثل في كون هاتين الفاضلتين، عائشة وأسماء، آثرت النبي وأبيهما على أنفسهما في المال، فلم تطلبان من أبيهما إبقاء شيء من ماله عندما أخذه كله ليضعه تحت تصرف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والدعوة الإسلامية، بل إنهما عالجتا الموقف مع جدهما أبي قحافة معالجة تؤكد رضاهما عما فعل أبوهما، كما يتضح من حديث السيدة أسماء الذي تقول فيه: ” احْتَمَلَ أبو بكر مَالَهُ كُلَّهُ مَعَهُ: خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، أَوْ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ “، ” فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدِّى أَبُو قُحَافَةَ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: وَاللهِ إِنِّى لَأَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ، قُلْتُ: كَلَّا يَا أَبَهْ، إِنَّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا “، ” فَأَخَذْتُ أَحْجَارًا، فَوَضَعْتُهَا فِى كُوَّةِ الْبَيْتِ، كَانَ أَبى يَضَعُ فِيهَا مَالَهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَهْ، ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا الْمَالِ “، ” فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ، إِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِى هَذَا لَكُمْ بَلَاغٌ ” قَالَتْ: ” وَلَا وَاللهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا، وَلَكِنِّى قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُسْكِنَ الشَّيْخَ بِذَلِكَ “.
وهكذا شاركت المرأة الرجل في تجسيد أهم مبادي وقيم ومواقف الهجرة، من السبق والمبادرة، والتضحية، ومواجهة المخاطر، وتجهيز قائد الهجرة ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه، وإثارهما على نفسها.