ماذا لو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغادر مكة مهاجراً ، وبقي حياته كلها في مكة ، يدعو إلى الله ، وهم لايستجيبون ، سنوات طويلة بين شد وجذب ، والمعركة سجال ، فهل كانت ستقوم دولة الإسلام ؟
إنها فرضية مستحيلة ، ولكننا نطرحها هنا لنناقش أمراً في غاية الأهمية أمراً صاحب الهجرة ولايكاد ينفك عنها ، ولقد دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الثمن غالياً لتقوم دولة الإسلام ، فهاهم يتركون أرضهم وأهلهم وديارهم مضحين بالغالي والنفيس من أجل نصرة دينهم ، كيف تترك أرضك وأهلك وديارك وترحل إلى مكان جديد لاتعرف فيه أحداً ، ولاتعرف عنه شيئاً ، كيف سيكون حالك لوفعلت ذلك ، إنه من الصعوبة بمكان ، ترك موطن الصبا ومرتع الشباب ، والبعد عن الأهل والأحبة والأصدقاء والخلان ، ومفارقة الديار، ومسقط الرأس إلى مكان آخر ، تجهله تماماً ، هو أمر شاق على النفس ، وقد عبّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه من مكة مهاجراً إلى المدينة بقوله ” والله إنك لأحب البلاد إليّ ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت ” ولكن حين آمنوا بدعوة الإسلام ، جعلوا اتكالهم على الله سبحانه ، موقنين أنه لن يخذلهم ، وسلّموا قيادهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقيناً منهم انه سيعبر بهم إلى بر الامان ؛ وبذلك هان عليهم كل شيء وتضاءلت امام أعينهم عظائم الأمور ، كيف لا وقد
كان المسلمون في الهجرات الثلاث ، أولاً هجرتي الحبشة ، وثانياً هجرة يثرب ، طوع بنان النبي صلى الله عليه وسلم ، سامعين مطيعين منتظرين الأوامر النبوية ، لم يتخاذلوا ولم يضعفوا ولم يجبنوا ، حين ادخرهم كمخزون استراتيجي في الحبشة بعيداً عن مكة يستقدمهم حال الضرورة – فمكثوا وعلى رأسهم أميرهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم حتى السنة السابعة للهجرة ، وبعضهم عاد على مدى فترات متقطعة بين الخامسة للبعثة والسابعة للهجرة – أو يقدمون هم بدون استدعاء حال الكارثة العظمى لو أن قريشاً تمكنت من النبي صلى الله عليه وسلم وقتلته ، ليتابعوا دعوته ، ثم ينطلقون بدعوة الإسلام ، لينشروها في ربوع الأرض.
وشاءت إرادة الله أن تكون الأولى ، ويعود من يعود ، ويبقى من يبقى بلا ضير في كلتا الحالتين.
فالهجرة لم تكن هروباً من التعذيب ، أونجاة بالنفس ، أو بحثاً عن موارد الرزق كما قد يخطر ببال من لم يطلع على الدعوة الإسلامية ومراحلها المتعددة حتى قيام هذا الدين وبسط سلطته على الجزيرة العربية وماحولها ، أو كما يدّعي بعض المستشرقين وأذنابهم من السائرين في ركابهم من أبناء جلدتنا؛ وإنما كانت فراراً بالدين إلى بيئة حاضنة صالحة ، حين أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن مكة بيئة طاردة لهذا الدين ، راح يعرض ماجاء به من عند الله على القبائل القادمين لحج بيت الله الحرام .
لقد عاصرت قريش في السنة الخامسة للبعثة هجرة سابقة إلى الحبشة بقي فيها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ولم يغادرها ؛ ولكن هذه الهجرة مختلفة ، فهاهي قريش ترى التفاف أبناء يثرب حول النبي صلى الله عليه وسلم حين قدموا حاجّين ، مما قضَّ مضاجعهم ، ونكَّد عليهم حياتهم، فحاولوا بكل الطرائق وشتى الوسائل أن يمنعوا اكتمال هذا الحدث العظيم ، ولكن هيهات هيهات ، فقد نَفَذَ أمر الله ، كانوا بادئ ذي بدء مطمئنين بأن هذه الهجرة كسابقتيها ، حيث لم تمض شهور ثلاثة حتى عاد مهاجرو الهجرة الأولى ودخلوا مكة كل في جوار أحد سادتها ، ومضت الهجرة الثانية ولم يعد منهم إلا نفر يسير على مدار سنوات ، ولكن قريش مطمئنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم لم يغادرهم .
ولكن حين جاء أمر الله بالهجرة ، التي أعَدَّ لها النبي صلى الله عليه العدة بسرية تامة ، وبجاهزية كاملة . أُسقِط في أيديهم ، حين فقدوا أثر النبي صلى الله عليه وسلم بعد تَتَبُّعه إلى غار ثور ..حينها كانت الطامة الكبرى عليهم ، حيث أدركوا أن هذه الهجرة مختلفة عما سبقها ..وأن النبي صلى الله عليه وسلم انتصر عليهم بخروجه من تحت سلطتهم.
إن المتأمل في الأحداث الجسام سيعلم أن الهجرة النبوية الشريفة شكّلت تحولاً مفصلياً في التاريخ الإسلامي، فقد كانت بوابة الدخول إلى مرحلة نشر الدعوة وقيام دولة الإسلام.
فالهجرة النبوية المباركة ، هي الحَدَثٌ الذي غَيَّرَ ليس مجرى التاريخ الإسلامي فحسب ، بل غيَّر مجرى التاريخ الإنساني ، بميلاد دولة الإسلام وإقامة مجتمع جديد راسخ وقوي.
يقول الشيخ الإمام عبدالله سراج الدين في كتابه : محاضرات حول هجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد أظهر الله تعالى في الهجرة معجزات كبيرة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، كما ظهرت عنايته سبحانه الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم ، فقد خرج صلى الله عليه وسلم من مكة حزيناً ، متخفياً متكتماً ، ثاني اثنين ، كل هذه إشارات ورموز إلى معانٍ كبرى : فكان خروجه من مكة إيماءً لإخراج المشركين منها ، فقد خرج صلى الله عليه وسلم ظاهراً ، لكنه أخرجهم حقيقة ، إذ قُتِلَ منهم يوم بدر سبعون ، وأسِر سبعون ، وضعفت شوكتهم ، كما أنه صلى الله عليه وسلم خرج حزيناً من مكة ، ولكنه عاد إليها فاتحاً فرحاً بنصر الله تعالى، وخرج ثاني اثنين ليس معه إلا صاحبه أبو بكر رضي الله عنه ، لكنه عاد ورجع إليها ومعه عشرة آلاف مسلم وخرج متكتماً ، لكنه رجع إلى مكة راكباً على ناقة وهو في أبهى المظاهر ، وحوله جماهيرالمسلمين ، بينما أعين المشركين تنظر إليه صلى الله عليه وسلم وهم خائفون فزعون يتسارعون في الدخول في الإسلام ، راغبين في الأمان من رسول الله صلى الله عله وسلم.
وعلينا أن نَعِيَ جميعاً أن هناك تشويهاً متعمدأً لتاريخ الإسلا وانتصاراته وقادته ، ورموزه ، وشخصياته المتميزة يقوم بها أعداء الإسلام تارة بأيديهم ، وتارات أخرى بأيدي المأجورين من المحسوبين على العرب والمسلمين.. ولكن مهما حاولوا فلن يحصدوا إلا الفشل ، لأن مجتمعنا جُبل على الخير والفطرة السليمة ، ولأن تذكيرنا الدائم بالأحداث والشخصيات والبطولات و الإنجازات هو حائط الصد المنيع الواقف في وجه هذا التشويه الرخيص ، ومن هنا فنحن المسلمين مطالبون بإحياء ذكرى الهجرة النبوية المباركة التي كانت اللبنة الأولى في تاريخ الإسلام ، بتتبع آثارها واستذكار أحداثها حتى لاتغيب تلك الأحداث والشخصيات العظيمة عن أذهان أطفالنا وشبابنا يستحضرونها في كل وقت وحين لتكون قبساً يمشون وراءه ونبراساً يقتدون بهديه ، ومنارة ترشدهم إلى الغاية المثلى والطريق القويم .