د. رمضان يونس: الرسول خطط ودبر ونفذ وتوكل.. فكان أعظم حدث في تاريخ الإسلام
د. صبري الغياتي: المدينة كانت البيئة الصالحة لتأسيس الدولة على الإيمان والمؤاخاة
أدار الندوة: جمال سالم
تابعها: محمد الساعاتي
تصوير: محمد شعيب
أكد العلماء المشاركون في ندوة “الهجرة النبوية والأخذ بالأسباب” التي نظمتها “عقيدتي” ووزارة الأوقاف بمسجد عمر بن الخطاب بالمنيب، محافظة الجيزة، برعاية د. مختار جمعة، وزير الأوقاف، أن الهجرة النبوية من مكة للمدينة تعد نموذجا نبويا عمليا للاخذ بأسباب النجاح بعد التوكل على الله والثقة في نصره.
وأشاروا إلى أن ترك مكة والهجرة للمدينة تمثل نقطة فارقة في تاريخ الدعوة الإسلامية وبداية لتأسيس الدولة الجديدة على الإيمان والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
وطالبوا المسلمين بأخذ العبر من الهجرة باعتبارها أعظم حدث في تاريخ الإسلام لتغيير واقع الأمة المرير إلى العزة والكرامة والقوة.
بدأت الندوة بتلاوة قرآنية من الشيخ عبدالله يونس، وحضرها جمع كبير من رواد المسجد.
أوضح الزميل جمال سالم، مدير تحرير عقيدتي، أن الأخذ بالأسباب سنة إلهية في الكون، من أخذ بها تقدم ونهض، ومن تركها تراجع وتخلف، بصرف عن دينه أو عرقه أو لونه، وقد توكل رسول الله على ربّه وخطط ودبر ونفذ للهجرة، فاختار الصحبة الصالحة على رأسهم سيدنا أبو بكر، وكذلك السرية في الخروج ليلا، وكذلك اختيار سيدنا علي بن أبي طالب لينام مكانه لرد الأمانات، وكذلك عبدالرحمن بن أبي بكر لجمع الأخبار والاستخبارات، والسيدة أسماء بنت أبي بكر للتموين وتوصيل الطعام، والراعي عامر بن أريقط لطمس آثار السير بغنمه، وعبدالله بن أريقط الخبير بطرق السير في الصحراء رغم أنه كان على غير الإسلام، وأختار طريقا غير مألوف للهجرة، فلم تكن الهجرة عشوائية بل بالتخطيط والأخذ بالأسباب ولهذا كتاب الله لها النجاح بل إنه أعظم حدث في تاريخ الإسلام.
الأخذ بالأسباب
أشار د. رمضان يونس، الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بالقاهرة، جامعة الأزهر، أن الأخذ بالأسباب من السنن الإلهية في الكون، حيث جعل الله لكل شئ سببا، وقد علمنا الإسلام أن التوكل الحقيقي على الله في حياتنا يكون بالثقة في الله والأخذ بالأسباب، وقد ضرب لنا رسول الله أروع الأمثلة في الأخذ بالأسباب خلال الهجرة النبوية العطرة التي فكر فيها الرسول بعد إعراض أهل مكة عن دعوته، ومحاربتهم لها الدعوة، وشنّوا حروبا على كل من دخل في هذا الدين الجديد، حتى ضاقت مكة على أهل الإسلام، موضحا أن من أهم دروس الهجرة النبوية التخطيط الجيد لهذه الرحلة المباركة، فرغم يقين رسول الله أن الله يعصمه من الناس، لكنه لم يتواكل، بل خطط تخطيطًا محكمًا، وقد وعده الله بالنصر فقال: “إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”. ولم يكتف بالاستعانة بمن هم على دين الإسلام فقط بل استعان بغير المسلمين من ذوي الفطرة السوية التي وصفها الله بقوله: “فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا”. فلم يخون ثقة الرسول فيه رغم أن قريش رصدت جائزة كبرى لمن يأتي بالنبي وأبى بكرٍ حيا أو ميتا قدرها مائة بعير، ولكنه لم يطمع في هذا، ووصفت أم المؤمنين عائشة فرحة أبيها باختيار النبي للصديق صديقًا قائلة: “فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، ثُمَّ خَرَجَا حَتَّى لَحِقَا بِالْغَارِ فِي ثَوْرٍ“.
وأكد د. رمضان أن الأخذ بأسباب القوة قدر الاستطاعة إنما هو منهج إسلامي، تنفيذا لقوله تعالى: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ”، فالأخذ بالأسباب من شيم المرسلين والصالحين في كل زمان ومكان، ويجب على المسلم في حياته العملية أن يأخذ بالأسباب مع التوكل على الله، ولم يقف أمر الأخذ بالأسباب في حياة النبي عند الهجرة فقط؛ بل أخذَ بالأسباب في حياته كلها وعلمها صحابته في مواقف كثيرة، فما أجمل الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله، قول رسول الله: “لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا“.
نقطة فاصلة
وأشار د. صبرى الغياتى، مدير الدعوة والمراكز الإسلامية بالجيزة، إلى أن الهجرة رحلة للإسلام، والإنتقال به من مرحلة إلى أخرى، كما ينتقل أحدنا من دار قديمة لم يسترح فيها أو سأم منها، أسس دعائمه كما يحب، وبناه بشكل وطراز معجز محبب وأسسه على أسس قويمة، ثم بعد ذلك كانت حياته الجديدة فى هذا البيت الجديد، حياة هادئة كما يحب، وبعد أن ظل رسول الله يدعو للإسلام 13 عاما فى مكة فما آمن معهم إلا قليل، وكان أحب إلى قلب النبى أن ينتشر الإسلام فى مكة، وأن يعم الإسلام بين أهله، فهم أولى بالإسلام من غيرهم، ولكنهم أصرّوا على إيذائه وأصحابه، ومع هذا ظل وفيا لها ومحبا لها.
أوضح أنه حين لم يجد النبى فيهم الاستجابة لما يريد ذهب إلى أهل الطائف ولقى منهم ما لقى، فبدأ يبحث للإسلام عن وطن جديد، يغرس فيه مبادئ الإسلام، ويغرس فيه حبات الإسلام النوارانية، ويغرس فيه شجرة الإسلام الباسطة اليانعة، فبحث عن تربة خصيبة طيبة، فكانت “طيبة” أو “المدينة المنورة” هى تلك الأرض الطيبة، التى احتضنت بذور الخير فى الإسلام، ومبادئ الإسلام، وكان ذلك هو النجاح الأكبر فى حادث الهجرة النبوية المطهرة، ومن هنا أخذ النبى بالعوامل والأسس والأسباب التى أسس عليها النبى دولة الإسلام الأولى والمدينة كانت تسمى “يثرب” من التثريب، وكانت قد عانت قبل خروج النبى من مكة إليها، لأن اليهود كانوا يأخذون أجود أنواع التمور بأبخث الأثمان، وأشعلوا الفتنة بين قبيلتي الأوس والخزرج، فماذا فعل النبى؟ أيقن أنه لا تبنى دولة على شقاق بين سكانها على اختلاف أديانهم، ولهذا حرص على إرساء قواعد رسالة الإسلام الشاملة العالمية الصالحة لكل زمان ومكان ببناء مصلحة المجتمع والفرد وهذا هو مقصود الإسلام .
وأشار د. الغياتي إلى أنه عندما وصل النبي إلى المدينة بدأ ببناء دولة كاملة الأركان فقام بعدة أمور هامة في بناء الدولة وتحقيق المصلحة الشاملة للبشرية جمعاء حتى لغير المسلمين إن أرادوا السير على حذوها، فبنى النبي المسجد، وهو مكان التقاء الناس ليأتمروا به ويتشاورون فيه بكل شئونهم، بالإضافة لدوره في العبادة التي تربط الناس بالله تعالى، وتوثق الإيمان الذي به القوة والمنعة لأن العبادة وسيلة للوصول لهدف وهو اجتماع القلوب واتحادها كما تجتمع الأبدان في مكان العبادة، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار فكان مثالا هاما لدور الدين الإسلامي في توحيد الناس من أماكن وأصول مختلفة ويذوبوا تحت راية دين واحد مما يؤدي لقوة ولحمة للأمة الإسلامية، ثم دشَّن “وثيقة المدينة” الشهيرة التي قنَّنت للعلاقة بين المسلمين أنفسهم وبين المسلمين واليهود والكفار ممن يسكن المدينة المنورة والتي حفظت حقوق الجميع وأكدت على واجباتهم جميعا، ثم بنى رسول الله سوق المدينة وجعل للجميع حق ممارسة البيع والشراء وعدم حكر ذلك على اليهود وحدهم والذين كانوا يملكون كل التجارة ويحتفظون بها لأنفسهم بالمنطقة كلها وليس فقط داخل المدينة، وبالتالي حرية تملك المال وتوسع دائرة المتملِّكين للمال خاصة المسلمين وخاصة المهاجرين الذين جاؤوا من مكة يعرفون التجارة ويمهرون بها لكن كان ينقصهم سوق يمارسون فيه هذا الحق.
وأكد د. الغياتي تحريم الإسلام للبطالةَ والكسل والركود لأن ذلك يؤدي إلى انحطاط في جميع مجالات الحياة، كما أنه يؤدي إلى هبوط الإنتاج، وتخلف الأمة، وانتشارِ الفوضي، وكثرة المتواكلين، فينبغي على الفرد أن يعمل ليأكل مِن كسب يده لأنه أفضل أنواع الكسب، فقال رسولُ اللهِ: “ما أكل أحدٌ طعامًا قطّ خيرًا مِن أنْ يأكلَ مِن عملِ يدِه، وإنّ نبيَّ اللهِ داودَ كان يأكلُ مِن عملِ يدهِ”.