الإمام الزاهد.. المجتهد المفسر.. أديب الدعوة.. خطيب المنبرين
رصد وقراءة- جمال سالم:
شهد شهر مارس رحيل عدد كبير من علماء الإسلام وأعلام الدعوة الذين تركوا بصمة في التاريخ الدعوي ومازالت سيرتهم ومسيرتهم نموذجا يحتذى للأجيال الجديدة من الدعاة والعلماء.
من هنا تأتي أهمية رصد وقراءة سيرتهم ومسيرتهم المضيئة لأنهم ما زالوا نجوما رغم وفاتهم .
تعد سيرة ومسيرة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق- شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية سابقًا- نموذجا للعالم الزاهد الذي لا يخشى في الله لومة لائم رغم أنه تقلّد العديد من المناصب الرفيعة، وخدم الدين والعلم في كل منصب تقلَّده؛ قاضيًا ومفتيًا ووزيرًا، ثم شيخًا للأزهر، حتى وفاته، بالقاهرة فجر الجمعة 15 مارس 1996م.
ولد الشيخ جاد الحق عام 1917م ببلدة بطرة مركز طلخا بالدقهلية، في أسرة صالحة حيث تلقى تعليمه الأولي في كُتَّاب القرية في كُتَّاب الشيخ سيد البهنساوي فحفظ القرآن، وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة، ثم الْتحق بالمعهد الأحمدي بطنطا، وأنهى المرحلة الابتدائية به، وانتقل إلى المرحلة الثانوية، واستكملها في القاهرة في معهدها الديني بالدَرَّاسَة، وبعد اجتيازه لها التحق بكلية الشريعة، وتخرَّج فيها سنة 1944، حاصلاً على الشهادة العالمية، ثم نالَ تخصص القضاء بعد عامين من الدراسة، وكان الأزهر يعطي لمن يحصل على العالمية في الشريعة أن يتخصص في القضاء لمدة عامين، وفي الإجازات التي كان يقضيها في القرية يؤم الناس في صلاتهم ويلقي عليهم دروساً دينية ما بين المغرب والعشاء.
عمل بعد التخرج في المحاكم الشرعية عام 1946، ثم أمينًا للفتوى بدار الإفتاء 1953، ثم عاد إلى المحاكم الشرعية قاضيًا 1954، ثم انتقل إلى المحاكم المدنية 1956 بعد إلغاء القضاء الشرعي، وظلَّ يعمل بالقضاء، ويترقى في مناصبه حتى عُين مستشارًا بمحاكم الاستئناف 1976، في فترة عمله بالقضاء كان الحاجب الخاص به هو والد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وقد ساعد الشيخُ والدَ الرئيس السابق على إلحاق ابنه في الكلية الحربية، ولم ينكر ذلك الرئيسُ السابقُ، فكان يحترم ويوقّر فضيلَة الشيخ لدرجة كبيرة.
عُيِّن مفتيًا للديار المصرية أغسطس 1978، وعمل على تنشيط الدار، والمحافظة على تراثها الفقهي، وعمل على اختيار الفتاوى ذات المبادئ الفقهية، وجمعها من سجلات الدار، ونشرها في مجلدات بلغت عشرين مجلدًا، وهي ثروة فقهية ثمينة؛ لأنها تمثل القضايا المعاصرة التي تشغل بال الأمة في فترة معينة من تاريخها، وفي الوقت نفسه تستند إلى المصادر والأصول التي تستمد منها الأحكام الشرعية. كما اختير عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية سنة 1980.
عُيّن وزيرًا للأوقاف يناير 1982، وظلَّ به شهورًا قليلة، اختير بعدها شيخًا للجامع الأزهر في 17 مارس 1982. وفي سبتمبر 1988 تمَّ اختياره رئيسًا للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، شهد الأزهر في عهده نهضة كبيرة، وانتشرت المعاهد الأزهرية وبلغ عددها أكثر من ستة آلاف معهد، كما حرص على انتشارالمعاهد في العالم الإسلامي وفتح فروع لجامعة الأزهر بالخارج.
أهم مؤلفاته “الفقه الإسلامي مرونته وتطوره”، “بحوث فتاوى إسلامية في قضايا معاصرة”، “أحكام الشريعة الإسلامية في مسائل طبية عن الأمراض النسائية”، “رسالة في الاجتهاد وشروطه”، “رسالة في القضاء في الإسلام”، “مع القرآن الكريم”، “النبي ﷺ في القرآن”، حصل على وشاح النيل من مصر، ووسام «الكفاءة الفكرية والعلوم» من المغرب، وجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام من السعودية.
المفسِّر المجتهد
توفى 9 مارس 2010 الدكتور محمد سيد طنطاوي الذي تولى مشيحة الأزهر 1996 – 2010. وتعد سيرته ومسيرته نموذجا في الجدية في تحصيل العلوم العربية والشرعية، فقد ولد بقرية سليم الشرقية بمحافظة سوهاج 14 جمادى الأولى 1347هـ، الموافق 28 أكتوبر 1928م. تلقى تعليمه الأساسي بقريته، وبعد أن حفظ القرآن التحق بمعهد الإسكندرية الديني 1944، وبعد انتهاء دراسته الثانوية التحق بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، وتخرج فيها 1958، وحصل على تخصص التدريس 1959، ثم حصل على الدكتوراه في التفسير والحديث بتقدير ممتاز في 5 سبتمبر 1966.
تدرج في المناصب حيث عمل إماما وخطيبا ومدرسا بوزارة الأوقاف 1960، مدرسا بكلية أصول الدين جامعة الأزهر 1968، أستاذا مساعد بقسم التفسير بكلية أصول الدين بأسيوط 1972، انتدب للتدريس في ليبيا لمدة 4 سنوات، أستاذا بقسم التفسير بكلية أصول الدين بأسيوط 1976، عميدا لكلية أصول الدين بأسيوط 1976، عام 1980 انتقل إلى السعودية وعمل في المدينة المنورة كرئيس لقسم التفسير في كلية الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية.
عين مفتيًا للديار المصرية 28 أكتوبر 1986، وكان قبلها أستاذا جامعيا وكل المفتين قبله تدرّجوا في سلك القضاء الشرعي، صدر قرار جمهوري بتوليته مشيخة الأزهر 8 ذو القعدة 1416هـ الموافق 27 مارس 1996، وله اجتهادات وفتاوي شهيرة تمثل تجديدا في فكر المؤسسة الدينية، كما كانت له مواقف من بعض الأحداث السياسية الداخلية والخارجية التي أثارت جدلا واسعا.
ورثت الأمة عن د. طنطاوي العديد من المؤلفات الشهيرة منها” التفسير الوسيط للقرآن الكريم” وهو خمسة عشر مجلدًا وأكثر من سبعة آلاف صفحة، وكتاب “بنو إسرائيل في القرآن والسنة” ويقع في مجلدين تزيد صفحاته عن ألف صفحة وكان موضوع رسالته للدكتوراة، وكتاب “معاملات البنوك وأحكامها الشرعية” و”السرايا الحربية في العهد النبوي” و”القصة في القرآن الكريم”و “آداب الحوار في الإسلام” و”الاجتهاد في الأحكام الشرعية” و”الحكم الشرعي في أحداث الخليج” و”تنظيم الأسرة ورأي الدين فيه” و”المرأة في الإسلام” وغيرها الكثير، توفي 24 ربيع الأول 1431هـ الموافق 10 مارس 2010 في السعودية عن عمر يناهز 81 عاما وتم نقل جثمانه إلى المدينة المنورة حيث صلّي عليه صلاة الجنازة بالمسجد النبوي بعد صلاة العشاء ووري الثرى في مقبرة البقيع مع الصحابة والتابعين وحسن أولئك رفيقا.
أديب الدعوة
في التاسع من مارس 1996 توفى الداعية والمفكر الإسلامي الشيح محمد الغزالي الذي يُعد أبرز دعاة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، عُرف عنه تجديده في الفكر الإسلامي والمناهضين للتشدد والغلو في الدين، عُرف بأسلوبه الأدبي في الكتابة واشتهر بلقب “أديب الدعوة”.
وُلِدَ الشيخ الغزالي بقرية نكلا العنب، ايتاي البارود، محافظة البحيرة 1917م، سُمّيَ بهذا الاسم رغبة من والده بالتيمّن بالإمام الغزالي فلقد رأى في منامه الشيخ الغزالي وقال له: “أنه سوف ينجب ولدًا ونصحه أن يسميه على اسمه الغزالي فما كان من الأب إلا أن عمل بما رآه في منامه.
نشأ في أسرة متدينة، وله خمسة إخوة، فأتم حفظ القرآن بكتّاب القرية في العاشرة، ثم التحق بمعهد الإسكندرية الإبتدائي وظل به حتى حصل على الثانوية الأزهرية، ثم التحق بكلية أصول الدين بالأزهر، وبدأت بعدها رحلته في الدعوة من خلال مساجد القاهرة، تلقى العلم عن الشيخ عبدالعظيم الزرقاني، الشيخ محمود شلتوت، الشيخ محمد أبو زهرة، د. محمد يوسف موسى، الشيخ محمد محمد المدني وغيرهم، حصل على درجة العالمية 1943، عمل بعد تخرّجه عمل إمامًا وخطيبًا ثم تدرّج في الوظائف حتى صار مفتشًا في المساجد، ثم واعظًا بالأزهر ثم وكيلًا لقسم المساجد، ثم مديرًا للمساجد، ثم مديرًا للتدريب فمديرًا للدعوة والإرشاد، أُعِير أستاذًا في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، ودرّس في كلية الشريعة بقطر، وتولى رئاسة المجلس العلمي لجامعة الأمير عبدالقادر الجزائري الإسلامية.
ترك الغزالي مؤلفات كثيرة جدا وله كواقف كثيرة في الدفاع عن الإسلام ضد خصومه في الداخل والخارج وظل مدافعا عن دينه حتى توفى السبت 9 مارس 1996م، في السعودية أثناء مشاركته في مؤتمر حول الإسلام وتحديات العصر ودفن بمقبرة البقيع بالمدينة المنورة، وكانت هذه أمنيته الكبرى.
خطيب المنبرين
في السادس من مارس 2018، توفى د. إسماعيل الدِّفتار، خطيب المنبرين، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، وهو من مواليد 1936م، بقرية قشطوخ، بمركز تلا، المنوفية، نشأ في رحاب أسرة علمية أزهرية نمّت معارفه وأصقلت مهاراته، فأتمَّ حفظ القرآن في كُتَّاب القرية قبل بلوغه التاسعة من عمره، وفقد والده وهو في سن العاشرة وظل شغوفًا بالعلم والتعلُّم، دائم التّفوق في مُختلف مراحل تعليمه، إذ انتقل إلى طنطا للدراسة في معهد الأحمدي الأزهري، وحصل منه على الشهادتين الإعدادية والثانوية الأزهري ثم التحق بكلية أصول الدين، وتفوق بها فعُيِّن بعد تخرجه معيدًا بقسم الحديث والتفسيرثم تدرّج في سُلَّم المناصب الأكاديمية بعد حصوله على الدكتوراة 1977م كما أعير لجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
لُقِّب -رحمه الله- بـ«خطيب المنبرين» إذ كان يخطب في آخر حياته في مسجد «عمرو ابن العاص»، بعد خطبه الرائدة في صرح الجامع الأزهر لمدة ثمانية عشر عامًا؛ فجمع بين منبري الجامعين الأكبرين، وقيل: أنَّه سُمِّي بذلك؛ إذ جمع بين منبري الخطابة والبرلمان حيث تقلَّد عضوية مجلس الشورى عام 1986م، وشغل رئاسة اللجنة الدينية، فأدى دوره في خدمة دينه ووطنه على خير وأتم وجه.
ترك د. الدفتار مؤلفات عديدة منها: أعلام الابتهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج- وقبسٌ من هدى الرسول- ومعجزة الإسراء والمعراج الخالدة- وشفاعة الرسول في القرآن الكريم والسنة النبوية- مناهج الأئمة في تصنيف مرويات السنة- ذكرى مولد النور بعد ملحمة العبور- يوم الفرقان وبدء العاشر من رمضان.