بقلم الدكتور: طلعت عبد الله أبو حلوة
أستاذ البلاغة والنقد ووكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية
للبنين بدسوق جامعة الأزهر
من سنن الله في الكون الاصطفاء والاختيار، ولا يكون ذلك إلا لعلة وحكمة، ومن ذلك اصطفاء هذه الليلة المباركة ليلة القدر من بين الليالي، وليس هذا لخصوصية تلك الليلة في ذاتها، وإنما ذلك لخصوصية ما حدث فيها، ولتكون زمانًا لتجليات الحق وعطاءاته لعباده، فاختارها الله لإنزال كتابه العزيز المعجز القرآن الكريم، وبزوغه من كنزه الذي كان مكنونًا فيه -وهو اللوح المحفوظ في السماء السابعة- إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم إلى النبي الصادق المصدوق بواسطة المَلَك؛ ليبتدئ مباشرة مهمته في الحياة باتباع المنهج الإلهي، ولتفيض آثاره على قلوبنا إخباتًا وخشوعًا، وعلى نفوسنا طُهْرًا وصفاء وإشراقًا، وعلى سلوكنا التزامًا وانقيادًا.
ففي هذه الليلة المباركة تلقى النبي -ﷺ- رسالة الوحي، واصطفاه الله -عز وجل- رسولًا وخاتمًا للنبيين، وبعثه في الناس بشيرًا ونذيرًا، وكانت رسالته إيذانًا بحياة جديدة في حق الإنسانية كلها، ولم يكن أمر الاصطفاء والنبوة مفاجئا للعرب، فما أكثر ما تناقلت الجزيرة أنباء وإرهاصات عن نبي جديد قد حان مبعثه، وما أكثر ما تحدث السُّمّار والكُهّان والرهبان والمتحنفون عن رسالة سماوية منتظرة قد آن أوانها، وحانت بعثة رسولها، وقد كانت مكة على الخصوص الموضع والملتقى الذي تتلاقى فيه هذه الإرهاصات وتلك البشريات، وتتجمع روافدها من هنا ومن هناك حول البيت العتيق الذي هو مثابة الحج ومركز العبادة، ولكن لم يكن أحد يدري على وجه اليقين زمن ذلك المبعوث المرتقب والمنتظر.
وقد كان النبي -ﷺ- منذ أن استقرت به الحياة في رعاية الزوج الرءوم، وأعفته ظروفه المادية من عناء الكفاح المادي اليومي، قد أتيح له أن يستجيب لما في نفسه من نزوع إلى التأمل العميق الذي أرهف حسه، وميل إلى التفكير المستغرق الذي أوهج عقله، وقد اصطفاه الله خاتمًا للنبيين بعد بُرْهة من الزمن حُبِّبَ إليه فيها الخلوة والتأمل والتحنث والرياضة الروحية في غار حراء؛ ليستشف ويستجلي ما في الكون من أسرار وحقائق تقوده إلى وجود قوة عظمى خَفِيّة، تُدَبِّر أمر هذا الكون الفسيح وفق نظام دقيق، وقوانين منتظمة، ونواميس مطردة، فلا الشمس ينبغي أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكلٌّ في فلك يسبحون.
وقد نزل دستور المسلمين القرآن الكريم على النبي -ﷺ- بعد أن شارف الأربعين من عمره مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا على حسب الوقائع والحوادث وحاجات الناس المتجددة في ثلاث وعشرين سنة التي هي مدة الرسالة، وكان نزول أول شيء منه، وبزوغ أول نجم من نجومه في ليلة القدر في شهر رمضان المبارك، ولعل ذلك هو سبب اختصاص هذا الشهر بافتراض الصوم فيه، ففي هذه الليلة انبلج نور الحق، وتلقى النبي رسالة الوحي التي كانت إيذانًا بحياة جديدة ملؤها الكفاح والجهاد ثم النصر.
وقد كان لنزول الوحي على المصطفى -ﷺ- في ليلة القدر في غار حراء وَقْع المفاجأة العنيفة التي جاوزت أبعاد التصور؛ ولذا فقد ذهب إلى بيته شاحبًا يرجف فؤاده، وهنا تجلى دور الزوج الحكيمة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، حيث أخذت تبشره بالخير، وتطمئنه بأن الله -عز وجل- لا يخزيه أبدًا، وأخذت كلماتها الطيبة تنساب إلى فؤاده الطيب الطاهر، فتبث فيه الثقة والأمن والسكينة، وذهبت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل -وكان على علم بالكتب السماوية السابقة التي بشرت بذلك النبي- فحكت له ما ذكره لها النبي، فأخبرها بأنه قد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى عليه السلام، وأنه نبي هذه الأمة.
ولقد امتن الله على هذه الأمة المحمدية بهذه الليلة المباركة ذات القَدْر والشرف والعظمة، والتي هي خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر؛ وذلك لتكون محلًّا لتجليات الحق على أمة النبي المصطفى والحبيب المجتبى لقِصَر أعمارها خشية ألا تبلغ من العبادة ما بلغه غيرها من العبادة والعمل الصالح بسبب طول العمر، وقد أنزل الله على نبيّه في القرآن الكريم سورة سُمِّيَتْ باسم هذه الليلة، ذَكَرَ فيها إنزال القرآن، وبَيَّنَ فضلها وما يكون فيها من أحداث، فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.
وليلة القدر التي هي تاج الليالي وواسطة عقدها تكون في العَشْر الأواخر من شهر رمضان الفضيل، وهذا ما عليه أكثر علماء الأمة، وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع، وهي ليلة خير وسلام، يستحب إحياؤها بما يُظْهِر قدرها، وذلك بالتقرب إلى الله بالعبودية الخالصة، والأعمال الصالحة، والتوبة النصوح الصادقة، والذكر الحسن، وقراءة القرآن، وطلب الحوائج، والدعاء والمناجاة بجوامع الكلم، وسؤال العفو والعافية والمعافاة، حيث جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي قال: “مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ”.
وعن السيدة عائشة -رضي الله عنها- أنها سألت النبي -ﷺ- فقالت: يا رسولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أيَّ ليلةِ القدرِ ما أقولُ فيها؟ قال: ” قولي: اللهمَّ إنك عفوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي”، وللنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: “سَلُوا اللهَ العفوَ والعافيةَ والمعافاةَ فما أُوتِيَ أَحَدُ بعد يقينٍ خيرًا من مُعافاةٍ”، وذكر ابن مفلح في تعليقه على هذا الحديث أن الشر الماضي يزول بالعفو، والحاضر بالعافية، والمستقبل بالمعافاة.
وحثنا النبي على طلب العفو في هذه الليلة الطيبة بعد الاجتهاد في الأعمال الصالحة؛ “لأن العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يرون لأنفسهم عملًا صالحًا، ولا حالًا، ولا مقالًا، فيرجعون إلى سؤال العفو، كحال المذنب المقصر.
كما يستحب فيها الاعتكاف في المساجد، والقيام بالتراويح والتهجد إيمانًا واحتسابًا، واغتنامًا لبركتها وعِظَم الطاعات فيها، فقد كان من هدي النبي -ﷺ- أنه إذا أقبل عليه العَشْر الأواخر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وهجر الفراش، وجَدَّ وشَمَّرَ، وشَدَّ المِئْزر، واجتهد في الإكثار من القيام والذكر وقراءة القرآن والتضرع والخشوع، فنحن نرى بيت النبي مستيقظًا طول الليل ليس للهو أو لعب أو عبث، وما أحوجنا إلى التأسي والاقتداء بهذا النبي الأمين والنور المبين؛ لنحظى بالغفران، ونفوز بعبور الطريق بسلام إلى دار السلام.
وقد اقتضت حكمة الله -وحكمته كلها خير- أن أخفى علينا ليلة القدر في هذه العَشْر الأواخر؛ لكي ننشط في الطاعة، ونجتهد في العشر كلها حرصًا على طلبها وإدراكها، والتماسًا لبركتها، وتكثيرًا للثواب، ومضاعفة للأجر، كما أخفى علينا اسمه الأعظم؛ لنعظم كل أسمائه، وأخفى الصلاة الوسطى؛ لنحافظ على كل الصلوات، وأخفى وقت الموت؛ لنخافه في كل الأوقات، وذلك بخلاف ما لو تم تعيينها، فلربما اقتصرنا على الاجتهاد في ليلة واحدة، فيقل ثوابنا وأجرنا، هدانا الله جميعًا إلى إدراك هذه الليلة المباركة، ووفقنا لإحيائها، ورزقنا بركتها وخيرها.