من الطبيعي أن يهلل بنيامين نتنياهو وحلفاؤه لاسترداد أربعة من الأسرى المحتجزين لدى المقاومة في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة يوم السبت الماضي، ومن الطبيعي أن يعتبروا نجاح جيش إسرائيل في استعادة هؤلاء الأسرى نصرا تاريخيا، فلقد حرمتهم المقاومة الباسلة من أن يحصلوا ولو على نصف انتصار طوال الشهور الثمانية الماضية، رغم جرائم الإبادة التى ارتكبوها، والتي شهد العالم بأسره عليها، لكن الذي ليس طبيعيا أن يتماهى البعض منا مع هذا الطرح الصهيوني الدعائي المدلس، ويروج له، ويفقد الثقة في رجال المقاومة البواسل، ويدعي أنهم مخترقون، وأن إسرائيل اقتربت من تحقيق أهدافها.
لقد ظل نتنياهو يتحدث منذ السابع من أكتوبر الماضي عن النصر الكامل الذي سيحققه سريعا، ليسترد به جميع الأسرى، ويقضي به على المقاومة، ومرت شهور الحرب الضارية دون أن يرى شيئا من ذلك، ارتكب جيشه كل الموبقات والجرائم التي تحرمها الشرائع الدينية والقوانين الدولية والإنسانية، وقامت شعوب العالم تلعن إسرائيل وجيشها بكل اللغات، دون أن يتحقق لهم شيء من النصر، بل انتصرت المقاومة بتضحياتها وتكتيكتها الذكية المبدعة وصمودها الأسطوري، ووصلت رسالتها إلى المشرق والمغرب، حتى كانت جريمة مخيم النصيرات التى استردوا بها أربعة من الأسرى، أربعة فقط من الأسرى الأحياء الـ 120 ، واعتبروا ذلك نجاحا عسكريا تاريخيا، ولكن بشيئ يسير من التدبر سنكتشف أنه دليل على الهزيمة وليس النصر.
وحسبما ذكر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي فقد شارك في العملية مئات الجنود من الجيش والشرطة برا وبحرا وجوا، وتم التخطيط لها طيلة أسابيع، واتضح بعد ذلك أن القوات المشتركة في تنفيذ العملية استخدمت أساليب ووسائل رخيصة، كالتسلل في سيارات الإسعاف وشاحنات المساعدات الغذائية، مما يرجح تواطؤ بعض الأطراف والأجهزة المتواجدة في غزة لأغراض إنسانية.
وهناك تقارير تحدثت عن مشاركة خلية أمريكية متخصصة في تنفيذ المهمة، مدعومة من ضباط من المارينز وضباط بريطانيين، واستخدمت فيها الرصيف المؤقت الذي أنشأته حديثا أمام سواحل غزة، لكن الأمريكيين نفوا تلك التقارير، وهو نفي يثبت الحقيقة، وقيل في ذلك إن أمريكا أرادت أن تعطي نتنياهو شيئا من الإنجاز يفخر به أمام شعبه، ويشجعه على المضي في صفقة تبادل الأسرى، فأي نجاح لعملية تطلبت أسابيع من الإعداد والحشد، وشارك فيها المئات برا وبحرا وجوا، ثم انتهت إلى استرداد أربعة أسرى لا أكثر؟!
أضف إلى ذلك أن هؤلاء الأسرى المستردين هم من المدنيين الذين ـ ربما ـ لم تعطهم المقاومة تأمينا صارما مثل غيرهم من الأسرى العسكريين، ومع هذا لم تكن العملية سهلة بسيطة، بل كانت جريمة غبية، ليس فيها أي تكتيك عسكري أو ذكاء، فقد حرثوا مخيم النصيرات كله، وأمطروه بالقنابل والصواريخ في قصف مجنون، قتل فيه 210 من المدنيين وأصيب حوالي 500 شخص، ووقع اشتباك واسع مع المقاومة سقط فيه سبعة من الضباط والجنود الإسرائيليين، من بينهم قائد العملية، وأصبب آخرون، لكن إسرائيل تتكتم على ضحاياها وخسائرها كالعادة.
وإذا كانت النتيجة الوحيدة لهذا الحشد هي استرداد أربعة من الأسرى بعد ثمانية أشهر، فما هو حجم الإعداد المطلوب، والمدة الزمنية المطلوبة لاسترداد الأسرى الـ 116 الباقين على قيد الحياة، ناهيك عن جثث المقتولين بسبب القصف الإسرائيلي العشوائي؟ مع الوضع في الاعتبار أن المقاومة ـ لا شك ـ قد أخذت حذرها، وغيرت أسلوبها، فيما يتعلق بتأمين الأسرى، حتى تجعل المهمة أكثر صعوبة على جيش الاحتلال إذا فكر في تكرار العملية.
ومع ذلك فقد رد أبو عبيدة الصاع صاعين على وجوه نتنياهو وحلفائه، ولم يتركهم يهنأون بما فعلوا، فأعلن في بيانه أن ما نفذته إسرائيل في مخيم النصيرات جريمة حرب مركبة، وأول من تضرر منها هم الأسرى الإسرائيليون، الذين قتل بعضهم أثناء العملية، وأن جريمتهم ستشكل خطرا كبيرا على بقية الأسرى، وسيكون لها أثر سلبي على ظروف حياتهم، وفي أعقاب هذا البيان مباشرة تظاهر الآلاف في تل أبيب ومدن أخرى للمطالبة بوقف الحرب وتبادل الأسرى، وفق ما ذكره موقع شبكة (بي بي سي) البريطانية، وعقدت عائلات الأسرى مؤتمرا في تل أبيب أكدت فيه أنه لايمكن إعادة كل المحتجزين بعمليات خاصة، وأن السبيل الوحيد لإعادتهم هو وقف الحرب وإبرام صفقة التبادل، وعلى إسرائيل ألا تضيع الفرصة المتاحة حاليا.
المهم في القصة كلها أن عملية مخيم النصيرات لم تغير شيئا في المعادلة، ولم تقنع الإسرائيليين أنفسهم بأن جيشهم قادر على استعادة بقية الأسرى بالقوة، فما زالت المقاومة رافعة سلاحها بشرف وإصرار، وروحها المعنوية في عنان السماء، وما زالت الحاضنة الشعبية في غزة مستمسكة بصمودها حتى يأتي النصر سلما أو حربا، ويبقى على الأمة في هذا الظرف ألا تكون عامل تخذيل وتثبيط، فلا تحسبوا ما حدث شرا لكم، بل هو خير إن شاء الله، ولا تفقدوا ثقتكم في المقاومة، “فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده”.
هذا ليس ضربا من الأمنيات، بل قراءة للواقع من زواياه المختلفة، ففي يوم الجمعة الماضية، السابق على جريمة النصيرات، نشرت صحيفة “ها آرتس” الإسرائيلية في افتتاحيتها تحذيرا شديدا قالت فيه: “إن إسرائيل تمارس الوحشية حاليا، ما سيجعل انهيارها مسألة وقت، وإذا لم تتحرك السلطات السياسية فإن العد النازلي قد بدأ لزوال إسرائيل”، واستدعت الافتتاحية نبوءة الفيلسوف الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش (1903ـ 1994) التي قال فيها: “إن النشوة التي أعقبت حرب 1967 ستقودنا من القومية الفخورة الصاعدة إلى القومية المتطرفة، ثم ستكون المرحلة الثالثة هي الوحشية، والمرحلة الأخيرة ستكون نهاية إسرائيل”.
فلا تيأسوا يا قومنا من نصر الله، “إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا”.