كثيرا ما نَرَى حفلاتِ التأبين التى تُقام لأشخاصٍ رحلوا عن عالَمِنا، ويتبارَى المُشاركون فى ذِكْرِ محاسِن المتوَفَّى، ومَدْحه والإشادة به وبأخلاقه وتعامُله مع الغير، حتّى وإن كان غير ذلك فى الواقع- من باب “اذكروا محاسِن موتاكُم”- الأكثر من هذا، أن كثيرا من الحضور تنتابه حالة من التَحَصُّر على أيامه التى كانت وانْقَضَت، وإن كانت هناك قطيعة مع المتوفَّى وأحد أصدقائه أو رِفاقه، تمنَّى هذا الشخص لو أنّهما تصالَحَا أو تعاتبا وانْفَضَّت الأزمة، بدلا من الفِراق الأبدى وهُمَا على خِصام أو قطيعة!
وهذا شئ جميل وخِصْلَة حميدة أتمنّى زيادة رُقْعَتِها والتوسُّع فيها، ولكن شَرِيْطَة أن تتم فى حالِ الحياة، وليس بعد المَمَات، فما جدوى التعامل الحَسَن، والأخلاق الحميدة، وذِكْرِ المحاسن، والتغافُل عن بعض الهفوات، من أشخاص قد رحلوا عن دنيانا بعد أن ملأناها معًا- المتوفَّى ومَنْ ينتظر- شجارا وصراعا، بل خِصاما وحروبا نفسيّة، قد تصل فى بعض الأحيان للعدَاء الصريح أو التقاتُل، وحوادث القتل ليست ببعيدة عنّا، خاصة فيما بين الأهل والأقارب على المواريث أو نتيجة الشائعات المُسِيْئَة أو علاقات العمل والجِيْرَة؟!
فما أحوجنا لـ”ضبْط” بُوْصَلِة علاقاتنا الاجتماعية، وتقوية الخِصال الحميدة، والتغافُل عن الهفوات والكَبَوات المُسيئة، وبدلا من ترديد “اذكروا محاسن موتاكم” وقت لا ينفع فيه الندمُ ولن يفيد أحَدَنا! أن نغْرِس فى مُعاملاتنا مبدأ، الحديث الشريف الذى رواه سيّدنا أبو ذر الغفارى- رضى الله عنه- وقال فيه سيّدنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: “لا تَحْقِرَنَّ من المعرُوفِ شيْئًا، ولوْ أنْ تلْقَى أخاكَ بوجْهٍ طلْقٍ” أخرجه مسلم.
وأفضل ما يجبُ أن نتحلَّى به هو: التَّغافُلُ عن زلَّاتِ ذوي الرَّحِمِ، والصَّبرُ على أذاهم، وعَدَمُ قَطْعِهم؛ فعن أبي هُرَيرةَ- رَضِيَ الله عنه- أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطعوني، وأُحسِنُ إليهم ويُسِيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويَجهَلونَ عَلَيَّ، فقال: “لَئِنْ كُنتَ كما قُلتَ فكأنَّما تُسِفُّهمُ المَلَّ، ولا يزالُ معك من اللهِ ظَهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك”.
حتى وإن أخطأ أحدُنا بـ”زَلَّةِ لِسَان” فعليه بالمُسَارعة للاعتذار وعدم التكبُّر أو أن تأخُذه العزَّة بالإثم، وعلى الطرف الآخر أن يتقبَّل ويَعْذُر لا أن يُغالى ويتجبَّر، فالحياة أبْسَط من كلّ هذه التعقيدات.
فلنتخيَّل كيف ستكون حياتُنا لو “سِرْنَا” وطبَّقنا هذا المنهج فى كلّ معاملاتنا؟! صحيح أن هذا لن يكون إلا فى المدينة الفاضلة، أو جنَّة الخُلْدِ التى وَعَدَ الله تعالى عبادَه المتّقين، لكن نحاول ونسعى قدْر استطاعتنا وقُدْرَتنا على التحمُّل والتجمُّل بالأخلاق الجميلة، والمعاملات الحسنة، والقول الطيّب! وأرجو ألا أكون خياليا أو بعيدا جدّا عن حقيقة الواقع المُتَسَارِع، فهناك أُناس بالفعل يعيشون هذه الحالة من التسامح والرضا، فينعكس على حياتهم أمنًا وسكينة واطمئنانا.
كلّ ما هنالك، أن نسعى ونجاهد حتّى فى أضيق نطاق، وبالتأكيد فإن الله لن يُضيع أجْرَنا ولن يُخيِّب ظنّنا ورجاءنا بالعيش فى حياة هادئة هانئة بعيدة- قَدْر الإمكان- عن التصارُع، يملأها السلام النفسى والطمأنينة والسكينة. فاللهم اهد نفوسنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا صراطك المستقيم.