رغم كل ما قيل ويقال عن المفاوضات والوساطات والاجتماعات والاقتراحات فإن القضية بالنسبة لإسرائيل وأمريكا محصورة في الرهائن المأسورين لدى المقاومة، من عندهم تبدأ القضية وبهم تنتهي، أما حرب الإبادة الجماعية الدائرة منذ أكثر من 11 شهرا فلا تعنيهما في شيء، والدماء التي تسيل من الفلسطينيين ليس لها أي أهمية، والبيوت المدمرة، والأطفال والنساء الذين ينزحون في كل ساعة من مكان إلى مكان، ويعيشون في الخيام بلا مأوى، والمعتقلون الأبرياء في سجون الاحتلال، هؤلاء جميعا لاوزن لهم، وقد بدا هذا واضحا عند الضجة التي أعقبت عثور قوات الاحتلال على جثث ست رهائن إسرائيليين مقتولين في أحد أنفاق غزة، حيث هاجت حكومة نتنيىاهو وماجت، وتبعها حلفاؤها في أمريكا وأوروبا، فأوقفوا العالم على قدم واحدة من أجل إنهاء معاناة الرهائن، دون أي اعتبار للجانب الآخر من الصورة.
وهذه النظرة الأحادية تفسر أسباب فشل المفاوضات الدائرة حول صفقة الرهائن وإيقاف الحرب، فالإسرائيليون لايرون إلا أنفسهم، والأمريكيون لا يعنيهم إلا إرضاء نتنياهو وحكومته المتطرفة، مهما تظاهروا بالحياد وأعطوا من وعود، وكان من الطبيعي أن يتسبب هذا الوضع المتناقض في إصابة الإسرائيلية بانتفاخ الذات، والتعالي حد المرض على من عداهم من بني البشر، وهو ما أشار إليه الكاتب الإسرائيلى جدعون ليفي في مقال نشرته صحيفة (ها آرتس) يوم الخميس الماضي بعنوان “عند تأبين ستة إسرائيليين وتجاهل أكثر من 40 ألف فلسطيني”، حيث أكد أن “الرثاء الوطنى للرهائن الستة وتحويل محنتهم إلى قصة عالمية مفهوم، لكن من غير المفهوم التناقض الكبير بين التغطية الإعلامية الواسعة لمأساتهم والتجاهل التام للمصير المماثل لضحايا أبرياء في مثل سنهم على الجانب الفلسطيني، لايقلون عنهم براءة وصدقا وجمالا، لقد قيل كل شيء عن تجاهل معاناة الفلسطينيين في الحوار العام الإسرائيلي، لكن لم يقل ما يكفي بعد عن الـ 17 ألف طفل الذين قتلوا في غزة أو شردوا أو جوعوا أو بترت أطرافهم، وعشرات الآلاف من الضحايا الفلسطينيين الذين نزعت عنهم الصفات الإنسانية، وهو أمر مريض وغير أخلاقي”.
وقد حاول نتنياهو أن يستثمر قضية الرهائن الست لصالحه داخليا وخارجيا، ويجعل منها ورقة لإدانة المقاومة، وتحميلها مسئولية قتلهم، ودمغها ـ كالعادة ـ بالإرهاب، وتشبيهها
بداعش، لكن الفيديوهات التي بثتها المقاومة للرهائن وهم يوجهون رسائلهم إلى ذويهم، وإلى نتنياهو شخصيا، قلبت السحر على الساحر، وكانت بمثابة حرب نفسية مركزة، استنفرت الرأي العام الإسرائيلي وهزته من الأعماق، وذكرته بتلاعب نتنياهو وجبنه وفشله في تحقيق أي من الأهداف التي أعلنها، رغم إمعانه في القتل والتدمير، وبالأخص هدف استعادة الأسرى أحياء، وخرجت المظاهرات تدينه بقوة، وتتهمه بتعمد عرقلة صفقة التبادل، مما اضطره إلى عقد مؤتمرين صحفيين في يومين متتاليين، يدافع فيهما عن نفسه، ويحاول أن يبدو متماسكا أمام جمهوره.
وبهذه الفيديوهات (على بساطتها) نجحت المقاومة في أن تضع نتنياهو في موقف صعب، ليس فقط أمام الرأي العام العالمي، وإنما أيضا أمام حلفائه الغربيين، والرأي العام في إسرائيل، وداخل حكومته ودائرته الضيقة، فتصاعدت الاحتجاجات ضده في الداخل والخارج، وتجددت الاتهامات الموجهة إليه بالفشل والتعنت في إنجاز الصفقة لمصالح سياسية شخصية، حتى وصل الأمر إلى أن يجاهر الرئيس الأمريكي بايدن ـ لأول مرة ـ بأن نتنياهو لم يفعل ما فيه الكفاية لوقف الحرب، وأن تفرض بريطانيا ـ لأول مرة أيضا ـ حظرا مؤقتا على إمدادات بعض الأسلحة لإسرائيل.
وأمام هذه الحملات المتصاعدة لجأ نتنياهو في مؤتمريه إلى تبرئة نفسه من مسئولية تعطيل الصفقة، وألقى بالتهمة على المقاومة، رغم أن العالم كله يكذبه، وراح يصر على ضرورة أن تسيطر إسرائيل على محور فيلادلفيا لمنع حماس من إعادة تسليح نفسها، وبلغ به الطيش أن اتهم مصر بأنها لم تقم بما يكفي لمنع وصول السلاح عبر الأنفاق إلى غزة، فجاءه الرد المصري قويا مباشرا بأن “مصر لن تقبل بالمبررات التي يختلقها رئيس الحكومة الإسرائيلية لتبرير فشله، ولن تقبل بمخالفة إسرائيل لالتزاماتها فيما يتعلق باتفاقات الحدود، ومنها اتفاق محور فيلادلفيا ومعبر رفح”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن السيطرة على ممر فيلادلفيا لم تكن من أهداف الحرب التي وضعها نتنياهو، لكنه بعدما فشل في إنجاز أهدافه الأخرى جعل من هذه القضية العقدة الأهم في المفاوضات ضمن خطته بتغيير الأهداف في كل مرحلة، وتقديم مطالب جديدة، وهي الخطة التي مل منها الوسطاء، وصاروا ينتقدونها علنا.
ولتضخيم عقدة فيلادلفيا أكثر وأكثر، أخذ هذا الكذاب الأشر يكرر أن أمن إسرائيل ومصيرها مرهونان بالسيطرة على ممر فيلادلفيا، لمنع (الأوكسجين) من الوصول إليها، وهو أمر مثير للاستفزاز حقا، فمن الذي أعطى إسرائيل الحق في أن تخنق غزة، وتحكم الحصار على شعبها، وتدوس بأقدامها على المواثيق والقرارات الدولية والاتفاقات التي وقعت عليها من قبل؟
يقول نتنياهو إن غزة أصبحت بؤرة إيرانية لمهاجمة إسرائيل، وصارت تشكل تهديدا وجوديا علي أمن الإسرائيليين، متجاهلا أن غزة كانت مركزا وقاعدة للمقاومة الباسلة قبل الثورة
الإيرانية وبعدها، وقبل أن ينشأ صراع بين إيران وإسرائيل وبعد أن نشأ، وهذه المقاومة تدافع عن حق الشعب الفلسطيني في الاستقلال وتقرير المصير والحياة الحرة الشريفة، وهي حركة تحرير وطنية، لا ترتبط بأنظمة وصراعات خارج حدودها، وليس الزج باسم إيران هنا إلا محاولة للتعمية على جوهر الصراع، وهو الاحتلال الذي يستتبعه بالضرورة مقاومة.
وليست غزة وحدها التي تمثل خطرا على إسرائيل، فالحقيقة أن كل فلسطيني يمثل خطرا وجوديا على إسرائيل، وسيظل كذلك مادامت أرضه محتلة، وحقوقه مهدرة، ومقدساته منتهكة، وحريته مقيدة، ولا يرى أملا في مستقبل أفضل له ولأطفاله.