د. عزة رمضان: شيخ الأزهر يعتز بالمغاربة الأشاعرة المتصوفة
د. عبدالمالك الخطيب: تسخير الذكاء الاصطناعي لخدمة الإنسان
د. منير القادرى: التصوف ركيزة أساسية لحماية الإنسانية من التحولات التكنولوجية
رسالة المغرب: مصطفى ياسين
شهد الملتقى العالمي للتصوّف فى نسخته التاسعة عشر، الذى تعقده مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية، هذا العام تحت عنوان “التصوف ومآل القيم في زمن الذكاء الاصطناعي”، مشاركة مصرية فاعلة، بحضور د. محمد عبدالمالك الخطيب، نائب رئيس جامعة الأزهر للوجه القبلى، د. عزة رمضان، أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية بنات الأزهر، فى الجلسة الافتتاحية، فضلاً عن د. جمال الفاروق، عميد كلية الدعوة سابقا، السفير جمال حماد، المنشد والمبتهل الشيخ محمد علي جابين- خليفة النقشبندي- الخبير الاقتصادى مختار الخطيب، الخبير السياحي وائل على.
وسط كوكبة من علماء ومتخصصين وقادة فكر وروحيين من مختلف الجنسيات والأديان، وعرض فيديو عن المشاريع الرقمية في بركان، وفعاليات الملتقى السابق، وألهج المنشد “جابين”، كبير المنشدين بالتليفزيون المصرى، قلوب الحاضرين بإنشاده “الجنة ونعيمها لمن يصلى ويسلم عليك يا سيدي يا رسول الله”.
يأتي الملتقى ضمن فعاليات “شهر الفرح برسول الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم” تحت الرعاية الساميّة لجلالة الملك محمد السادس- حفظه الله- ورئاسة وحضور العارف بالله مولاي د. جمال الدين القادري بودشيش- رضي الله عنه- ومؤسّسة المُلْتَقَى، بشراكة مع المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، ومؤسّسة الجمال. بـ”مداغ”، ناحية بركان بالجهة الشرقية المغربية، بإشراف بِشَارة العارفين سيدي د. منير القادرى- رئيس مؤسسة الملتقى، مدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، نائب الطريقة القادرية البودشيشة.
افتتح الملتقى بتلاوة قرآنية للمقرئ السيد عبدالباسط، وتقديم د. عبدالرحيم السنى، الذى وصف مرور ١٩ عاما على انعقاد هذا الملتقى سنويا يؤكد نجاح الطريقة القادرية البودشيشية فى مواكبة التطورات والسياق المعاصر بما يفيد المجتمع والإنسانية.
محطة رائدة
أشار مولاي د. منير القادري بودشيش، إلى أن الملتقى أضحى محطة أكاديمية رائدة في المجال الصوفي القيمي والأخلاقي خاصة والشأن الإنساني عامة. لذا نجتمع لنتأمل في قضية مهمة تفرض نفسها على واقعنا المعاصر وهي العلاقة بين التصوف والقيم الإنسانية في ظل التطور التكنولوجي المتسارع، وخاصة مع ظهور الذكاء الإصطناعي.
وقال: إن هذه التكنولوجيا الحديثة تحمل في طياتها فرصًا كبيرة للابتكار خدمة للإنسان، لكنها أيضًا تثير تساؤلات حول مستقبل القيم والأخلاق. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا” (الشمس: 7-10). هذه الآيات تذكرنا بأن الإنسان مسؤول عن تهذيب نفسه وتخليق حياته والارتقاء بها نحو معانى التقوى والإحسان. وهذا هو جوهر التصوف وموضوعه.
وفي الحديث النبوي الشريف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ما رواه مسلم : “إِنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ” (رواه مسلم). هذا الحديث يؤكد على أهمية النية والقلب في أعمالنا، وهو ما يركز عليه التصوف الذي يهدف إلى تنقية القلوب من شوائب الدنيا، حتى يكون كل عمل الإنسان : أبحاته، إختراعاته، وغير ذلك، غايتها خدمة أخيه الإنسان وجوهرها أنها خالصة لوجه الكريم.
وفي عصر الذكاء الاصطناعي، حيث تؤثر التكنولوجيا على جوانب كثيرة من حياتنا، تصبح القيم الروحية والأخلاقية للتصوف أكثر أهمية. فالذكاء الاصطناعي، بالرغم من قدراته الهائلة، لا يمكن أن يعوض عن القيم الإنسانية والروحية التي تحكم أفعالنا ونوايانا.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي في الإحياء : “العلم بلا عمل جنون، والعمل بلا علم لا يكون”. هذه المقولة تعكس الحاجة إلى دمج المعرفة بالعمل الصالح، و محاذاة مبادئ وأسس الذكاء الاصطناعي بالقيم الفُضلى ليصير آمنا، مساعدا على إحداث طفرة نوعية في حياة الإنسان، على غرار الثورات الكبرى و الإختراعات الهامة التي غيرت معالم حضاراتنا في مختلف المجالات والميادين، كالطب والهندسة و الفلاحة و المواصلات و الإدارة و غيرها.
استطرد د. منير: وفي السياق المعاصر، حذر العالم الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينغ من مخاطر الذكاء الاصطناعي قائلاً: “الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون إما أفضل أو أسوأ شيء يحدث للبشرية”. هذه الكلمات تدعونا إلى التأمل في كيفية استخدامنا لهذه التكنولوجيا بما يضمن الحفاظ على القيم الإنسانية.
كما أشار إيلون ماسك إلى أن الذكاء الإصطناعي قد يشكل خطرًا وجوديًا إذا لم يتم التعامل معه بحذر، قائلاً: “نحن بحاجة إلى التأكد من أن تطوير الذكاء الإصطناعي يتم بحذر شديد”. وهذا يذكرنا بضرورة أن تكون قراراتنا مدفوعة بالقيم الأخلاقية والروحية.
هذا التوجه تعكسه توصية اليونسكو بشأن أخلاقيات الذكاء الإصطناعي (بتاريخ نوفمبر 2021) لكونها إطارًا عالميًا ومتطورًا يهدف إلى توجيه الأفراد والمؤسسات والشركات لضمان أن تكون أنظمة الذكاء الإصطناعي في خدمة الإنسانية، مع منع الأضرار وضمان مراعاة الأخلاقيات في جميع مراحل دورة حياتها.
كما شدد بيل غيتس، الذي يعتبر من رواد التكنولوجيا في عصرنا، على أهمية القيم الأخلاقية في توجيه التقدم التكنولوجي، قائلاً: “التكنولوجيا بدون قيم أخلاقية قد تؤدي إلى كارثة”. هذه الفكرة تتفق مع المبادئ الإسلامية التي تدعو إلى التوازن بين التقدم المادي والروحي.
ان الذكاء الإصطناعي كما يري الفيلسوف الفرنسي إدكار موران edgar morin يبقى عاجزا عن فهم تمظهرات الطبيعة البشرية و الخصوصيات الإنسانية، لأنها تظل مفتقدة لآليات تعبر بها عن هذه الأبعاد القيمية التي لها أهمية قصوى في حياة الأفراد و المجتمعات، كالود والتراحم و الكرم و التضامن و التعاون.
ركيزة التصوف
وأكد د. منير القادرى، أنه في ظل هذه التحولات التكنولوجية، يساهم التصوف كركيزة أساسية تهتم بالاخلاق وتزكية النفس في توجيه حسن استخدامنا للذكاء الإصطناعي -حتى لا يفتقد هذا الإنسان لهويته وقيمه- هذه القيم كالإخلاص والصدق والتضامن والمحبة، هي ما سيضمن للإنسانية أن يكون هذا التطور التكنولوجي في خدمتها وليس ضدها، وحتى لا يكون الإنسان تحت سيطرة الآلة ومكابحها.
لذا فإننا مدعوون اليوم أكثر من أي وقت مضى للعودة إلى قيمنا الروحية والأخلاقية، ولنتأكد من أن التكنولوجيا، مهما كانت متقدمة، تظل وسيلة لتحقيق الخير والعدالة والرحمة في هذا العالم .
ومن منطلق إنشغالنا بكل ما يرتبط بالوجود البشري، وصناعة الإنسان في بعديه المادي والروحي، صناعة توازن واعتدال وفق النهج المحمدي القويم في ظل التصوف مقام الإحسان، كثابت من ثوابت الهوية الوطنية و الدينية للمغاربة تحت القيادة الرشيدة لأمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله و أيده، الذي ما فتئ يوجه إلى اعتماد المبادرات من أجل توجيه العمل الحكومي نحو إيلاء مجال التكنولوجيا المكانة التي يستحقها بإنشاء وزارة الإنتقال الرقمي و إصلاح الإدارة، خدمة للمواطن و الصالح العام وهذا دليل على الرؤية المتبصرة لجلالته نصره الله، وبعده الاخلاقي لتسخير التقدم التكنلوجي لما فيه النفع العام وحسن التدبير والحكامة الناجعة.
ونغتنم هذه المناسبة للتنويه بالجهود المتميزة والمشرفة على المستوى الجهوي و الوطني و الدولي لعمالة اقليم بركان تحت إشراف السيد محمد علي حبوها، عامل صاحب الجلالة على هذا الاقليم، وذلك على حسن توظيف الرقمنة والذكاء الاصطناعي في خدمة الحكامة الترابية والمجالية وتحسين المردودية وحسن إستثمار الموارد البشرية والكفاءات لصالح المواطن حيث اصبحت مدينة بركان نموذجية ورائدة في مجال الرقمنة والذكاء الاصطناعي ولقد حصلت على العديد من الجوائز الدولية في كل من رومانيا و كوريا الجنوبية و كينيا ضمن برنامج المدن الذكية programme des villes intelligentes وهذا ثمرة العمل الجاد والمستمر والحكامة الإيجابية والفعالة.
كلمات الوفود
وألقى كلمة الوفود المشاركة د. محمد عبدالمالك الخطيب، نائب رئيس جامعة الأزهر للوجه القبلى، مطالباً بتسخير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لخدمة الإنسان وتحسين جودة الحياة، والحذر من الوقوع فى مخاطره التى تهدد ركائز الحياة البشرية. مشيراً إلى أن التكنولوجيا اثرت في أخلاق الكثيرين، وأن التصوف يحمى الإنسانية لأنه يحملها على التخلق بالقيم الإنسانية والنبوية. واصفا الزاوية البودشيشية بأنها مباركة يشع منها نور العلم والفضيلة، فى بلد الأمن والأمان والاستقرار والرخاء والحب والضياء، فى عهد صاحب الجلالة الملك محمد السادس.
الإمام والمغاربة
وذكرت د. عزة رمضان، أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية بنات الأزهر، موقف فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وإشادته بالمغرب وأهله دائما خاصةً العاملين في مجال المذهب الاشعرى والتصوف فهو منهج الأزهر ، محذرة من وجود انفصام العلوم والتخصصات وكأنها جزر منعزلة، مما يحتاج للاندماج والتنسيق والجمع بين العلم والعمل فهذا توجيه قرآنى، وسط التحديات والشواغل مع الأجيال الجديدة لحسن التعامل مع التكنولوجيا الحديثة.
تحولات جذرية
وعرض كلمة الوفود المغاربة، عضو البرلمان المغربى أنور صبرى، قائلا: يشهد العالم تحولات جذرية والمغرب تحت رؤية الملك نموذج بين التجديد والتمسك بالقيم والمبادئ الأساسية للمجتمع ، والبرلمان ابرز المواقع لهذا النقاش حول القضايا المعاصرة والقبم الأخلاقية ولخدمة المواطنين، يجب أن يكون قوة لتقدم وحليفا لخدمة المجتمع والإنسانية، أن يحسن ظروف حياتنا ويعزز قيمنا وهويتنا.
الوعى التكنولوجى
وحذر د. عبدالله بسمار، فى كلمة الوفود الأوربية، من الانزلاق في شباك التكنولوجيا الحديثة دون وعى، وضرورة استثمار فوائده لخدمة الإنسان.
وطالب د. توران كوروتلى، تركيا، بأهمية التوازن فيما بين التكنولوجيا وتسخيرها فى نفع البشرية وتجنب مخاطرها.
وألقى كلمة الطرق الصوفية د. رياض بازو، نائب رئيس الاتحاد الصوفى العالمى، قائلا: اسسنا الاتحاد منذ سنوات وليس له ىاعم، ولكن فى اندونيسيا المجلس الصوفى برعاية الرئيس، اثمر كثيرا، وهنا فى المغرب لولا رعاية الملك للطرق الصوفية لما بقيت رائدة، فهنيئا لكم بالملك وشيخكم.
الجلسة الاولى
ثم بدأت الجلسة الاولى، بعنوان الهوية الدينية والثقافية للمسلم فى عصر الذكاء الاصطناعي، مفهوم وحقائق وتحديات، برئاسة د. اسماعيل الراضى، رئيس مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية بوجدة، الذى أكد أن التكنولوجيا تمثل تهديدا للإنسانية جمعاء ونسهم فى تحصينها ونزيد القيم تعميقا خدمة للإنسان.
وقدم أنور صبرى، عضو البرلمان المغربى، عرضاً لخطورة عدم وضع ضوابط لاستعمال تقنية الذكاء الاصطناعي على الهوية الوطنية والدينية، ودور المجتمع بكل مؤسساته البرلمانية والقضائية والإدارية وغيرها، حماية للمجتمع يأكمله.
وعرض د. سعيد بيهى، رئيس المجلس العلمى المحلى الحى الحسنى بالدار البيضاء، لصورة وشكل الهوية الإنسانية بين الإنسان الصوفى والرقمى.
وأشار د. محمد غانى، المتخصص فى الفكر الصوفى بفاس، إلى التبادلات المتعددة بين العقل والروح فيما بين التصوف والذكاء الاصطناعي.
واستعرض د. عبدالسلام الغرمينى، الأستاذ بجامعة سيدى محمد بن عبدالله بفاس، لمعالم من شخصية أهل الإيمان، وأوضح د. هشام كزوط، نائب عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة، مسألة التدين الرقمى وجدلية القيم بين التيه التكنولوجى والتجذر الصوفى. ودعا د. عبدالقادر لكيحل، البرلمانى والأستاذ بحقوق جامعة محمد الخامس، إلى أنسنة الذكاء الاصطناعي وانسجام الروح والتقنية أفقا. وتناول د. جمال أبو الهنود، مستشار وزير الأوقاف الفلسطيني، أثر الذكاء الاصطناعي على القيم الروحية والأخلاقية للتصوف. فى حين كشفت د. دنيا التامرى، الباحثة في التصوف، عن التصوف الاسلامي كنموذج لاستخدام الذكاء الاصطناعي فى خدمة العلوم الشرعية.
ويواصل الملتقى فعالياته وجلساته حتى الخميس المقبل، وينظم على هامشه معرض الكتاب الصوفى، وخدمات القرية التضامنية لعرض منتجات الشباب والقرى المجاورة خدمة للأهالى ورواد الزاوية البودشيشية.