“سلطانة” جًسرت علاقات عُمان الخارجية عبر رحلات دبلوماسية لربط الشرق بالغرب
في أجواء الاحتفالات بالعيد الوطني الـ 54 للنهضة العُمانية الحديثة والمتجددة، تؤكد الدراسات التاريخية أن سلطنة عُمان توسعت في عهد السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي (1806- 1856م) لتضم أراضيَ تمتد بين قارتي آسيا وإفريقيا، فتنوعت شرائح المجتمع وتعددت أطيافه وأديانه ومعتقداته، وأصبحت الإمبراطورية العُمانية تضمُّ بين مدنها وقراها شعوبا من مختلف الأديان والأعراق.
وتعامل السلطان سعيد بن سلطان، مع هذا التنوع والثراء البشري بحكمة ورجاحة رأي محاولًا الاستفادة من هذا التنوع واستثماره من أجل بناء إمبراطورية غنية اقتصاديا وقوية سياسيا وعسكريا، ويكون هذا التنوع البشري والفكري معول بناء وتعمير، فتعامل مع رعاياه بتسامح وتقدير للجميع؛ لخلق تعايش وتفاهم بين طوائف المجتمع وشرائحه، وقامت سياسته في التسامح والتعايش.
وبين عامي 1838 و1842م مرت عُمان بفترة مهمة برزت فيها قوتها البحرية والدبلوماسية. كان الملاحون العمانيون يتمتعون بمهارات فائقة، ليس فقط في التجارة الدولية بل أيضًا في إقامة العلاقات الدبلوماسية مع القوى العالمية. وفي هذه الفترة القصيرة، استطاع السلطان سعيد بن سلطان أن يؤسس روابط دبلوماسية مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وأرسل سفراء إلى كل من لندن ونيويورك، مما جعل هذه الأعوام نقطة بارزة في تاريخ عُمان البحري والدبلوماسي.
كانت السفينة «سلطانة»، التي لعبت دورًا مهمًا في هذه العلاقات، قد بنيت عام 1833م في حوض مازاجون لبناء السفن بمدينة بومباي. وبلغت حمولتها 312 طنًا، وكانت مصممة على الطراز الأوروبي، مزودة بـ14 مدفعًا وثلاثة صواري تحمل أشرعة مربعة. جرى تعديل السفينة لاحقًا في بومباي ومطرح لإضفاء الطابع العماني عليها. صُورت «سلطانة» في مناسبتين: الأولى خلال تفريغ الهدايا المرسلة للملكة فيكتوريا، والثانية في لوحة للرسام الأمريكي موني، التي تصور السفير أحمد بن نعمان الكعبي.
علاقات تاريخية بين عُمان وأمريكا
بدأ اهتمام الولايات المتحدة بعمان في التنامي مع تزايد النشاط التجاري في زنجبار، التي كانت تحت سيطرة السلطان سعيد. منذ عام 1830م، اتخذ سعيد زنجبار مقرًا له، وكان يعلم أن ازدهار عُمان يعتمد على استقرار ممتلكاته في شرق إفريقيا. وبالتالي، خصص الكثير من جهوده لتعزيز الأمن والاستقرار هناك منذ عام 1828م. كانت الولايات المتحدة واحدة من الدول الغربية التي سعت إلى علاقات متينة مع عُمان، وعُقدت معاهدة صداقة وتجارية بين السيد سعيد والولايات المتحدة في عام 1834م. ونتيجة لهذه المعاهدة، عُين ريتشارد ووترز كأول قنصل أمريكي في زنجبار عام 1837م، أي قبل وصول القنصل البريطاني الأول بأربع سنوات.
كان التجار الأمريكيون يجلبون بضائع متنوعة إلى زنجبار، مثل الأقمشة القطنية، والأدوات المنزلية، والأسلحة، والبارود، وكانوا يشترون بالمقابل صمغ الكوبال، وجوز الهند، والقرنفل، والعاج. وقد هيمن الأمريكيون على تجارة العاج، حتى أنهم جعلوا التجار البريطانيين يشتكون من احتكارهم للسوق، مما دفع البريطانيين إلى تعيين أول قنصل لهم في زنجبار.
وفي عام 1840م أبحرت السفينة «سلطانة» في رحلة تاريخية إلى نيويورك بقيادة أحمد بن نعمان الكعبي، الذي اختاره السيد سعيد لتمثيله. كانت هذه الرحلة الأولى من نوعها لسفينة عربية إلى الولايات المتحدة. أبحرت «سلطانة» من زنجبار، محملة بسلع متنوعة وهدايا للرئيس الأمريكي مارتن فان بيورين، بما في ذلك خيول، وأحجار كريمة، وذهب، وعطور. استغرقت الرحلة 87 يومًا، مرّت خلالها برأس الرجاء الصالح وتوقفت مرة واحدة في سانت هيلانة.
عند وصولها إلى نيويورك، أثارت البعثة اهتمام الصحافة الأمريكية. استُقبل أحمد بن نعمان ومساعداه بحرارة، وزاروا معالم نيويورك، مثل محطات السكك الحديدية وحوض بناء السفن. كما أقيمت لهم مآدب رسمية، وتولت الحكومة الأمريكية إصلاح السفينة على نفقتها. بعد انتهاء الزيارة، بيعت السلع التي حملتها «سلطانة»، واشترت سلعًا للرحلة العودة، مثل البنادق المزخرفة والأدوات المنزلية.
ورغم أن أحمد بن نعمان لم يحمل معه أوراق اعتماد رسمية كسفير، فقد سلم رسالة السيد سعيد بن سلطان إلى الرئيس الأمريكي، الذي رد برسالة ودية وهدايا ثمينة عبارة عن زورق فخم مؤثث ومرآتين كبيرتين وشمعدان دقيق الصنع في غاية الإبداع مع مسدسات تدور ذاتيا ومتعددة الطلقات نقش عليها باللغة العربية «من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية إلى سلطان مسقط وعمان» وإحدى هذه القطع معروضة بالمتحف الوطني بمسقط وكذلك بنادق صيد متطورة، والأهم من ذلك رسالة معبرة تفيض بالثناء والعرفان للسيد سعيد بن سلطان آل سعيد سلطان مسقط وزنجبار من الرئيس الأمريكي..بعد ذلك، غادرت «سلطانة» نيويورك في أغسطس 1840م، وعادت إلى زنجبار في ديسمبر، بعد رحلة شاقة توقفت خلالها مرة واحدة.
وهنا يمكن الإشارة إلى الدراسة التي أعدها الدكتور عبد الله الحراصي (وزير الإعلام العُماني حالياً) منشورة في مدونته بعنوان (عُمان في الصحافة الأمريكية في القرن التاسع عشر: استعراض عام مع ترجمة لبعض النماذج) ما جاء عن زيارة السفينة «سلطانة» إلى نيويورك.
عُمان ولندن … تاريخ طويل
على الجانب الآخر، كانت العلاقات بين السيد سعيد والحكومة البريطانية قائمة على أسس رسمية. ورغم توتر هذه العلاقات أحيانًا، أهدى السيد سعيد الملكة فيكتوريا سفينة بـ74 مدفعًا تُدعى «ليفربول» عام 1837م، وردت الملكة باليخت الملكي «برنس ريجنت». بعد وفاة الملك وليام الرابع، أرسل السيد سعيد بعثته الدبلوماسية الأولى إلى الملكة فيكتوريا في لندن.
وكان علي بن ناصر، والي ممباسا وقريب السيد سعيد، هو مبعوثه، محملًا بهدايا ثمينة، إلا أن المكاسب الدبلوماسية التي حققها كانت محدودة، رغم الاحترام الذي حظي به.
وفي عام 1842م قامت «سلطانة» برحلة دبلوماسية أخرى إلى لندن، حاملة السفير علي بن ناصر. حمل السفير رسائل إلى اللورد أبردين والملكة فيكتوريا، إلى جانب هدايا فاخرة. ورغم أن السفير علي بن ناصر لقي استقبالًا حافلًا، إلا أن النتائج الدبلوماسية كانت مرة أخرى محدودة، ولم تتحقق التوقعات بإبرام اتفاقيات جديدة. أُجريت مباحثات صعبة بين علي بن ناصر ووزارة الخارجية البريطانية.
خلال هذه الرحلة، تعرضت «سلطانة» لبعض الأضرار، لكنها وصلت لندن في يونيو 1842م. أثارت السفينة فضول البريطانيين، وأمر اللورد أبردين بإجراء إصلاحات لها على نفقة الدولة. ورغم أن هذه الزيارة عززت العلاقات العمانية البريطانية، فإن السيد سعيد لم يكن راضيًا تمامًا عن النتائج الدبلوماسية.
كانت «سلطانة» بمثابة رمز للبراعة البحرية والدبلوماسية العمانية. عادت إلى زنجبار بعد هذه الرحلة، لكنها تحطمت بالقرب من جزيرة واسين خلال إحدى رحلاتها من الهند بعد وفاة السيد سعيد. جسدت رحلات «سلطانة» قدرة عُمان على التواصل مع القوى الكبرى في العالم، وتركت أثرًا دائمًا في العلاقات الدولية لعُمان في القرن التاسع عشر.
ــــــــــــــ كلام الصورة/ السلطان هيثم بن طارق سلطان عُمان
/ صورة تعبيرية عن السفينة “سلطانة”