الزواج سُنَّة من سُنن الله في الخلق والتكوين، وهي سنة عامة ومطردة، لا يشذ عنها لا عالَم الإنسان، ولا الحيوان، ولا النبات، لقول الله عز وجل: “وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون”، والزواج أحد أركان بناء المجتمعات، والحفاظ على النوع البشري عن طريق إنجاب الأطفال وتكوين اللبنة الأولى ونواة المجتمع «الأسرة»، كما أنه وسيلةٌ لإشباع حاجات الإنسان العضوية كالشهوة والأمومة والاستقرار، والشعور بالانتماء، حيثُ أن حرمان الفرد منها يؤدي إلى الكبت وبالتالي إلى الاضطراب النفسي.
وقد حثَّنا ديننا الإسلامي الحنيف على الزواج، وإكمال نصف الدين وحفظ النفس من النزوات والانحراف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ).
ويعد المهر من الأمور التي فرضها الإسلام للمرأة على الرجل فرضاً حتمياً، لها حق التصرف فيه بحرية كاملة، تكريمًا لها، وتمهيدًا لقدومها إلى بيت الزوجية؛ يقول الله تعالى: ﴿وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾.
ولم يشترط الإسلام حدّاً أعلى أو أدنى للمهر،
فالمهر في الشريعة الإسلامية هبة وعطية، وليس له قدر محدّد، إذ الناس يختلفون في الغنى والفقر، ويتفاوتون في السعة والضيق، فتركت الشريعة التحديد ليعطي كل واحد على قدر طاقته وحسب حالته، وقد اتفق الفقهاء على أنه لا حدّ لأكثر المهر لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا}.
وجاءت امرأة إلى رسول الله، فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله، فصعَّد النظر فيها وصوَّبه، ثم طأطأ رسول الله رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جلست، فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة، فزوجنيها فقال: (فهل عندك من شئ)، فقال: لا والله يا رسول الله، فقال: (اذهب إلى أهلك، فانظر هل تجد شيئًا)، فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله، ما وجدت شيئًا، فقال رسول الله: (انظر ولو خاتمًا من حديد)، فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتمًا من حديد ولكن هذا إزاري، فلها نصفه، فقال رسول الله: (ما تصنع بإزارك إن لبسَتْه لم يكن عليها من شئ، وإن لبسْتَه لم يكن عليك منه شئ)، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه، قام فرآه رسول الله موليًا فأمر به فدُعي، فلما جاء قال: (ماذا معك من القرآن؟)، قال: معي سورة كذا «عددها»، فقال: (تقرؤهن عن ظهر قلبك؟)، قال: نعم، قال: (اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن)، وفي حديث آخر قال له النبي: (انطلق فقد زوجتكما فعلِّمها من القرآن).
وعليه، فقد يكون الصداق قناطير مقنطرة من الذهب أو الفضة، وقد يكون نواة من الذهب، وقد يكون خاتمًا من حديد، أو شيئًا من القرآن الكريم على قدر يسار الزوج، ومستوى الزوج والزوجة الاجتماعي.
وقد تتنازل المرأة عن هذا الصَّداق بإرادتها، إن شاءت وخاصة إذا كان الخاطب غير موسر، وكان ذا دِين وخُلق، فقد رُوِي عن أم المؤمنين السيدة عائشة- رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة)، (أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة).
ولكن التمادي والتباهي في مسألة المغالاة في المهور في زمننا هذا وصل إلى حد الإسراف، فهناك مبالغة في تكاليف الزواج من حيث اشتراط وجود بيت وفْقَ مواصفات محددة، فضلاً عن الإسراف في إقامة الاحتفالات والولائم وشراء الحليّ من الذهب والمجوهرات والأثاث اللازم والراتب الوفير، وكل ذلك يجب على الشاب توفيره قبل التفكير بالزواج.
وعلى الرغم من أن المجتمعات العربية طبقاً للبُعد الجغرافي والموروث الحضاري والثقافي تختلف في العادات والتقاليد إلا أنها تتفقُ في تقاليد المغالاة في المهور، والبذخ في تكاليف الزواج، وبالتالي ارتفاع مقلق في معدل العنوسة.
وقد وصل الأمر أنها أصبحت مشكلة بل من أخطر المشاكل التي يعاني منها الشباب، وقد تضجّر كثير الناس من هذا لما سبَّبه من المفاسد الكثيرة التي منها بقاء كثير من الإناث بلا زوج بسبب عجز كثير من الشباب عن تكاليف الزواج، ونجم عن ذلك مفاسد خُلُقية واجتماعية متعددة في المجتمع.
إن هذه المشكلة تَحتاج إلى نيَّة صادقة، وهمَّة عالية، ونبذ العادات والتقاليد، والانقياد إلى كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بالصَّحابة الكرام والسَّلف الصلح- رضوان الله عليهم أجمعين- في عدم المغالاة في المهور وعدم التكلّف تسهيلاً للزواج لعفة الرجال والنساء جميعاً.
وأخيرا، أرجو أن تتكاتف كل الجهود في وضع رؤية أو آلية لدراسة ظاهرة المغالاة في المهور والحد منها للتسهيل على أبناء هذا الوطن العزيز لبناء مستقبل ملئ بالطموحات والآمال الحياتية وتوفير جو من الرفاهية لأبناء الغد المشرق إن شاء الله.