كانت رحلة الإسراء والمعراج مَحْضَنُ الكمال الأمثل، والغاية العليا للوفادة على الله.
وطن
ففيها انتقل صاحب المقام الرفيع محمد صلى الله عليه وسلم من وطن إلى وطن، بينهما البون الفسيح الشاسع من حيث الشكل والموضوع: كانت من وطن الحس إلى وطن المعنى، من وطن الظلام إلى وطن النور،
من وطن الملك إلى وطن الملكوت،
من وطن عالم الأشباح إلى وطن عالم الأرواح، من وطن علم اليقين إلى وطن حق وعين اليقين.
ولما لا ! وكل الأنوار تتبدد أمام شمس الحق بعين اليقين، بحيث يصبح القلب محلا للتجليات الإلهية والعطايا اللدنية !
رحلة مباركة
ففي رحلته المباركة، يتقلب محمدٌ في بحور الأنوار، ( لنريه من آياتنا ) في الإسراء، و( لنريه من آياتنا الكبرى) في المعراج،
ما بين مواقف ومواقف، وأزمان وأماكن، ومقامات وأحوال، يتلقى دروسا عملية، ومواقف تربوية، ومشاهد أممية، ومشاعر إيمانية، ومنح إلهية ، وتجليات نورانية، تَرسخَ فيها منزلة الإحسان في قلبه.
منزلة الإحسان
بل لقد عَظُمُتْ منزلة الإحسان وارتفعت شأوا بمسها القلب الطاهر الشريف. فلئن كان الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه…
فإن من رفعَه الله على مقام الإحسان قال: ( رأيت ربي ) من غير ” كأنك تراه”، ومن دون “حجاب”، وليكون بذلك موفود العالمين إلى رب العالمين، ليتحقق من الرؤيا بعين اليقين.
ثم ها هو يتدرج في منازل المخاطبات والمكاشفات، لا في صورة واحدة، ولا في زمان واحد، ولا في كيفية واحدة، ولا في هيئة واحدة، ولا في ذكر واحد…
كأنها كانت – وهي كذلك- رحلة الحياة كلها، وكأن كل موقف من مواقفها يمثل نموذجا يتدرب فيه الوافد من بَعْدِهِ على معايشة الإحسان في كل زمان ومكان.
طوارق الشر
حين يدرك خطورة طوارق الشر، وخطورة الغيوب بما تحمله من خفي، حين تقطعت جميع الحبال والأوصال، حين يشعر أن الحماية من دونه تعالى تفتقر إلى الحماية، حين أدرك واقعيا أن لا ملجأ من الله إلا إليه.
هي رحلة قطف ثمرة الصبر، بعد تعب وعناء ومشقة وهجر، وإيذاء وطرد، إن في مكة وإن في الطائف، فكان لأجلها يحلو المر، ويُمضغ الصخر، ويشد الرحل، ويعزم الأمر…. ويردد القلب عن حب وشغب: إلهي: أنا في منزلك… أنا في حضرتك…
أراك يا إلهي في جميع صلواتي، وخطواتي، وحركاتي ، وسكناتي، وكلماتي، وسكتاتي، وخلواتي، ولقاءاتي، فلا يشغلني عنك إلا أنت.
إلهي
إلهى: لا نحن أنت ولا أنت نحن، ولا أنت العقل ولا العقل أنت، الخلائق عن فِهم ذاتك عاجزون، يا من لا يدرك صفاتك الواصفون، يا من أحطت كل شيء وزنا وعدا، طولا وعرضا، قربا وبعدا، مكانا وزمانا،
يا خالقا ما نري وما لا نرى، من فوق السموات العلا وما تحت الثرى.
الله
الهي: لك وحدك انحنت الرأس وزرفت العين، سأظل ببابك وإن طال الفتح، ولن يلتفت القلب إلا إليك.
فيا أيها القلب: استيقظ فهي لحظات ومواطن لا ينبغي لك فيها إلا أن تكون يقظا بين يدي الحق،
ألا يكيفك كي تستيقظ أن يخبرك الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم بأنك موضع نظره، وساحة التجلي بشقية: جلالا وجمالا .
رحلة الجبر
هي رحلة الجبر من بعد كسر، له ولجميع من آمن به وصدَّق به من إنس وجن، من حيوان وجماد.
يصدع جبريل بالنداء: تأدب يا براق ولا تهتز في حضرة هذا النبي، أبمحمد تفعل هذا، والله ما ركبك أحد أفضل على الله من محمد.
ولما لا ! وقد كان الإسراء بالليل من دون النهار، لأن الله لما محا آية الليل في قوله:
( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) انكسر الليل، فجُبِرَ بأن أسري فيه بمحمد صلى الله عليه وسلم…فكان جبرا لخاطره.
الحب
هي رحلة الحب، لكنه النوع الذي لا تطيقه المخلوقات كافة مهما بلغت من منازل القرب، أو أوتيت من خوارق القوة…
يقول الرسول لجبريل: أفي هذا المقام يترك الخليل خليله، فيرد عليه مظهرا عجزه وفقره الشديدين (وما منا إلا وله مقام معلوم)، لأن صاحب الدعوى قال لضيفه المبجل: (فإنك بأعيننا).
روضة
إنها روضة المحبين وعلى بساط الأنس، حين تفنى النفس في حضرتها، وتخلو من كل حظ، وتدع الدنيا والخلق جانبا، وما فيها إلا أسمار وألطاف، وتسرية ووداد …
تقدم يا حبيبي فإنك على بساط أنسي… يا لها من ألطاف وأسمار،
ومن حُسن وإشراق، ومن أنس الحياة والوجود. فيبوح في الحضرة : أعترف يا إلهي بين يديك ، أنني عرفت ما لم أكن أعرف…
فمنك الفضل.. وإليك يرجع الأمر … وأنت على كل شيء قدير، فسبحانك يا من أسريت وأعرجت.. وأنت السميع البصير .