في صباح الأربعاء الموافق 8 أبريل 1970 قطعت الإذاعة المصرية بثَّها لتذيع البيان العاجل: أيها الأخوة المواطنون، جاءنا البيان التالي: أقدم العدو الإسرائيلي، في تمام الساعة التاسعة و20 دقيقة، من صباح اليوم، علي جريمة جديدة تفوق حد التصور، عندما أغار بطائراته الفانتوم الأمريكية علي مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة بمحافظة الشرقية، وسقط الأطفال بين سنِّ السادسة والثانية عشر تحت جحيم من النيران.
سمعنا البيان من أحد المحال المجاورة لمدرستي، الناصرية الابتدائية المشتركة، بمدينة المنزلة، مازال المشهد عالقا في ذاكرتي حاضرا في ذهني، مُدرِّسة الفصل اصفرَّ لونها وانخلع قوامها وتعامد الشعر فوق رأسها, وسقط صابع التباشير من يدها، وابتعدت قليلا عن السبّورة وارتمت علي الكرسي الخاص بها كأنها تلقي بجسدها من شرفة الفصل! طغت علينا لفحة من الوجوم والاندهاش، فقد شغلتنا المدرِّسة بحالتها خوفا عليها، ثم راحت تستجمع نفسها والدموع تحرق جفونها، تحدثت بحشرجة وقالت: يا أولاد، هل تدرون ما حدث الآن، وما سمعناه؟!! الوجود ألجم ألسنتنا، فاستأنفت الكلام: الصهاينة “ولاد…” قتلوا زملاء لكم في بحر البقر بالطيران والنار! هذه القرية نعرفها جيدا فهي ظهير زراعي سمكي لمدينتنا، تلاميذ مثلكم ماتوا!! زملاء لكم قُتلوا وهم يكتبون: زرع، حصد! ماتوا في الحصة الثالثة قبل الفسحة! البنات في الفصل رحن في موجة مجنونة من البكاء، البنين تعالت صيحاتهم هتافا وشتما في العدو الصهيوني، ورحنا نهتف: موِّتوا إخوتنا، يا رب انصرنا.
انتقل الخبر إلي جميع فصول المدرسة، والست الناظرة الأستاذة كاميليا، والتي نراها لأول مرة وهي تبكي، رغم أنها هي التي كانت تُبكينا، كل المدرسين خرجوا من الفصول وكأنهم يعلنون النفير العام! أما التلاميذ فلم يكن لديهم أي استعداد نفسي لاستكمال اليوم الدراسي.
انتقلت للمنزل فكان السواد يخيِّم علي جدرانه، الأب العالم الأزهري والأُم المسكينة! فوصف المشهد يتسع لمقال خاص.
في اليوم التالي جمعتنا مدرِّسة الموسيقي للاستعداد لبروفة لأوبريت غنائي عن المذبحة فقد أشعلت الجريمة قلوب شعراء البلد، وكتب أحد الشعراء أغاني الأوبريت، وحفظنا أدوارنا حتي نعرض قضية أولاد “بحر البقر” علي كل الأصعدة، وأتذكر بعض الجمل التي حفظتها:
قامت الرعود.. شايلة البرود
كتل حديد.. مليانة نار
تحصد عيون.. كل الصغار
أما البواقي من العيال
قالوا كلام.. أحلي كلام
أبدا ما ماتش.. الحرب لسه ما انتهتش.
إن أولاد بحر البقر هم طير خضر في الجنة، أما دماؤهم فهي حيَّة تلعن من آذاهم.