كلما اقترب شهر رمضان كثرت الدعوات التي تحث المسلمين على أعمال الخير وعلى رأسها قراءة القرآن، فهو شهر القرآن قبل أن يكون شهر الصيام والقيام.
ولكن انتشر فى الآونة الأخيرة دعوة للاهتمام بالتدبر وتفسير معانى الآيات بدلا من القراءة فى رمضان، بدعوى أن التدبر أولى وأهم من القراءة فى الشهر الفضيل فأيهما أفضل فى أيام وليالى شهر رمضان؟
لاشك أن التدبّر مهم ولكن علينا فى حال الاختيار بين التدبر والقراءة بتخيُّرالأوقات وترتيب الخيرات والأولويات؛ يقول العالم الجليل الشيخ محمد الغزالى: عدم ترتيب الخيرات من جملة الشرور, وإذا تتبعنا نهج الرسول وآل بيته وصحابته الكرام فى شهر رمضان نجد أولا نهج القرآن فى الأمر بالتعامل مع القرآن بالقراءة أولا، فقال تعالى فى أول آيات أنزلت “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” ﴿١ العلق﴾ ومن القراءة سمّى كتاب الله قرآنا، قال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ الإسراء: 106
وقد أنزل الله – عز وجل- القرآن الكريم في شهر رمضان، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} البقرة: 185، ومنه يستحب قراءته وختمه فى شهر رمضان, والإسراع بتعدد الختمات عمل به كثير من الصحابة والتابعين وتابعى التابعين حتى كان يختمه بعضهم فى اليوم والليلة أكثر من مرة وذلك تيمّنا بنزوله جملة واحدة فى اللوح المحفوظ فى ليلة مباركة هي خير من ألف شهر {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: “أُنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله- صلى الله عليه وسلم- بعضه في إثر بعض”.
وقد كان حال النبى مع القرآن فى رمضان أكثر قراءة وتلاوة منه فى الشهور الأخرى، ففي حديثِ السيدة فاطمة- رضي الله عنها- عن أبيها- صلى الله عليه وسلم- أنه أخْبَرَهَا أنَّ جبريل- عليه السلام- كان يعارضُه القرآن كل عام مَرَّة، وأنه عارَضَه في سنة وفاتِه مَرَّتين.
وكان النَّبي- صلى الله عليه وسلم- يُطيل القراءة في قيام رمضان باللَّيل، أكثر من غيره.
وقد صَلَّى معه حُذَيفة ليلة في رمضان، قال: فقرأ بـ”البقرة”، ثمَّ “النِّساء”، ثم “آل عمران”، لا يمرُّ بآيةِ تخويفٍ إلاَّ وقف وسَأَل، قال: فما صَلَّى الرَّكعتينِ حتى جاءَه بلال فآذنه بالصَّلاة؛ خرجه الإمام أحمد؛ وخَرَّجه النَّسائي، وعنده: أنه ما صلى إلاَّ أربع ركعات ونفهم من ذلك أنه صلى أربع ركعات بين المغرب والعشاء فى كل ركعة بجزء من القرآن هذا فقط فى أول الليل.
أما الصحابة فكانت عنايتهم بكثرة القراءة عملا وقولا، فقد أَمَرعمر أُبَي بن كعب، وَتَمِيمًا الدَّاري، أن يقوما بالنَّاس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتينِ في ركعة، حتى كانوا يعتمدونَ على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلاَّ عند الفجر. وفي رواية: أنَّهم كانوا يربطونَ الحبال بين السواري، ثمَّ يَتَعَلَّقُون بها.
ورُويَ أنَّ عمر جمع ثلاثة قُرَّاء، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأَ بالناس ثلاثين، وأوسطهم بخمس وعشرين، وأبطأهم بعشرينَ.
ومن هنا نتعلم أن قراءة القرآن فى الشهر الفضيل تكون أثناء القيام وبالتلاوة منفردا أو بالمدارسة على احد القراء.
ولذا كان الصحابة والتابعون وتابعو التابعين يعددون الختمات، فكان للشَّافعي في رمضان سِتُّون ختمة يقرؤها في غير الصلاة، وعن أبي حنيفة نحوه.
وقراءة القرآن الكريم لها فضائل كثيرة منها ما جاء في الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن؛ كمثل الأترُجَّة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن؛ كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن؛ مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن؛ كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر).
كما أنه يأتى شفيعا لقارئه يوم القيامة قال رسول الله: ((الصِّيام والقُرآن، يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: ربِّ مَنَعْته الطَّعام والشراب بالنهار، ويقول القرآن: منعته النَّوم باللَّيل، فَشَفّعني فيه، فيشفعان)).
أما تدبر القرآن وتحصيل تفسيره فعلينا به بقية العام ولو أن نتدبر فى كل يوم آية واحدة ولكن لا نهجر القرآن بعد رمضان, ولقد ورد عن عبدالله بن عمر- رضي الله عنهما- أنَّه أخذ في تحصيل سورة واحدة- هي سورة البقرة- ثماني سنوات يَتعلمها ويعمل بحلالها وحرامها ويتعلم أحكامها قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ [ سورة ص: 29].
ففى شهر رمضان القراءة أولى وأكبر نفعا وأكثر خيرا فلنا بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، وفى شهر رمضان تتضاعف الحسنات, وفى بقية العام التدبر والتعلم هو الأولى عملا وعلما.
أعاننا الله وإياكم على الصيام والقيام بالقرآن فى شهر رمضان.