خلال كلمته بمؤتمر روسيا والعالم الإسلامي المقام بجدة اليوم الأربعاء ٢٤ نوفمبر ٢٠٢١م أكد أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف أن ثقافتنا هي ثقافة التسامح والسلام ، فثقافة السلام في الأصل في هويتنا الثقافية وما سواها ليس مجرد استثناء بل خروج على الأصل .
وأكد معاليه أن الحوار البناء هو الحوار القائم على العدل والإنصاف واحترام القانون الدولي وخصوصية الآخر الدينية والثقافية وعاداته وتقاليده ، مع احترام القانون الدولي بعيدًا عن سياسات الإملاء والاستعلاء وفرض سياسة الأمر الواقع ، فالحوار يعني حسن الاستماع والإنصات إلى الآخر وعدم الاستعلاء عليه أو محاولة شطب ذاكرته الثقافية أو محوها أو النيل منها أو تذويبها .
فالحوار على زنة فِعال ، والمحاورة على زنة مُفاعلة ، يقتضيان المشاركة لا الإقصاء، ولا يقعان من طرف واحد ، يقال: تحاور محمد وعلي ، أو توافقا، أو تشاركا، أو تطاوعا، أي حاور، أو وافق ، أو شارك ، أو طاوع كل منهما صاحبه ، ولا يُتصوَّر أن يحاور الإنسان نفسه.
وعليه فالحوار يقتضي أن تُعامل الآخر بما تحب أن يُعاملك به ، وأن تنصت إليه قدر ما تحب أن ينصت إليك، وأن تأخذ إليه الخطوات التي تنتظر منه أن يخطوها نحوك ، وأن تبحث عن المشترك بينك وبينه ، و لاسيما المشترك الإنساني ، وأن تعمل على تعظيم هذا المشترك ، وإلا فحاور نفسك ، واسمع صوت نفسك ، ولا تنتظر أن يسمع الآخرون صوتك.
الحوار الهادف ينأى بصاحبه عن كل أشكال الجمود والاستعلاء، ويحمله على احترام الرأي الآخر وتقديره ، لا شطب ذاكرته ، ولا العمل على تذويب هويته .
الحوار الحضاري هو الذي يهدف إلى صالح الإنسان كونه إنسانًا ، بغض النظر عن دينه أو جنسه أو لونه أو لغته ، وأن نواجه معًا المخاطر المحدقة بالإنسانية من التطرّف والإرهاب ، و الحروب والمجاعات ، وسباقات التسلح ، والتغيرات المناخية ، وأن يقف الإنسان إلى جانب أخيه الإنسان ويكون عونًا له عند الشدائد والنوائب ، في وقت أصبح فيه العالم أشبه ما يكون بقرية واحدة ، ما يحدث في شماله يؤثر بالطبع على جنوبه ، وما يحدث في شرقه تجد صداه في غربه.
إن ديننا الحنيف قائم على الإيمان بالتنوع والاختلاف الذي هو آية من آيات الله وسننه الكونية، حيث يقول سبحانه : “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ” ، ويقول سبحانه : “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ” ، ويقول سبحانه : ” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ” ، فالتنوع قوة وثراء لو أحسنا التعامل معه والإفادة منه ، فبديل الحوار هو الصدام ، وبديل الإيمان بالتنوع والاختلاف هو الاقتتال والاحتراب .
وبالواقع المعاين المشاهد ندرك أن أكثر الأمم إيمانًا بحق التنوع والاختلاف وقبول الآخر والمختلف وترسيخ أسس التعايش السلمي بين أبنائها من جهة وفيما بينها وبين العالم كله من جهة أخرى ، هي أكثر الأمم أمنًا واستقرارًا وتقدمًا ورخاء وازدهارًا.
وينبغي أن يقوم الحوار على أسس ومرتكزات قوية , نذكر منها:
1- السعي الدائم نحو التعارف ، والانفتاح على الثقافات الأخرى ، وليس الانغلاق المحكم الذي يؤدي بنا إلى الخوف من الآخر المجهول ، فتعميق الوعي بالآخر وثقافته ومجريات حياته يجعله بالنسبة لنا أقل غرابة ، ويجعل الحوار معه أكثر يُسرًا وأسهل مأتىً وتناولا ، وإذا كان الحكم على الشيء فرعًا عن تصوره كما يقول المناطقة فلابد أن نتعرف على ما لدى الآخر من قيم ومثل وثقافات ، وأن نحلل ذلك تحليلا جيدًا محايدًا ومنصفًا قبل الحكم له أو عليه ، وألا تكون لدينا أحكام وقوالب جاهزة مسبقة في الحكم على الآخرين.
2- تحكيم لغة العقل ورغبة جميع الأطراف في نبذ العنف والكراهية والتطرف والإرهاب ، إيمانًا بأن قضية الصراع ليس فيها رابح مطلق أو خاسر مطلق ، وأن عواقب الصراع والعنف والتطرف وخيمة على الإنسانية جمعاء ، وأنه لا بديل للإنسانية عن البحث في القواسم والمصالح المشتركة ونقاط الالتقاء ؛ لما فيه خير البشرية بعيدًا عن الحروب والصراعات والقتل والاقتتال والتخريب والتدمير.
3- أن تكون لدى جميع الأطراف الرغبة الحقيقية في إعلاء القيم المشتركة وتجنب جميع مظاهر الأنانية والاستعلاء.
4- التركيز على الإفادة من النافع والمفيد ، وغض الطرف عن خصوصيات الآخر الثقافية التي قد نرى أنها لا تتفق مع قيمنا وحضارتنا ، في ضوء الاحترام المتبادل بين الأمم والشعوب ، من غير أن يحاول أي طرف من أطراف الحوار أن يفرض على الآخر قسرا قيمه وأنماط حياته الخاصة ، بل علينا جميعا العمل على تحقيق السلام الإنساني من خلال تعظيم القيم المشتركة و المتفق عليه ، ويعذُر بعضهم بعضًا في المختلف فيه.
5- التأكيد على أن الأخلاق والقيم الإنسانية وما ينفع الناس من خلال تعظيم المصالح المشتركة ودرء المخاطر. والمفاسد ، ينبغي أن تكون المرتكز الرئيس للحوار الإيجابي البناء.
وقد علمنا ديننا الحنيف أن نقول الكلمة الطيبة للناس جميعاً بلا تفرقة ، فقال سبحانه : “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا” ، بل نحن مطالبون أن نقول التي هي أحسن للناس جميعا كل الناس ، يقول سبحانه وتعالى : “وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” ، ويقول سبحانه : “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيم “، وإذا كان هذا هو واجبنا في التعامل مع العدو فما بالكم بما يجب أن نكون عليه مع الصديق الحميم ؟!
لقد حرم ديننا الحنيف قتل النفس على إطلاقها ، فلا قتل على المعتقد ولا العرق ولا الجنس ولا الهوية ، فكل الدماء معصومة ، وكل الأعراض مصانة ، وكل الأموال محفوظة ، وعهد الأمان مصان .
وختاما نؤكد أن ديننا دين التعارف والتعاون والسلام ، يعلي مبدأ التفاهم والحوار ، ويحترم آدمية الإنسان ، يؤمن بحرية المعتقد ، و بالتنوع والاختلاف ، ويعده ثراء ، ويدعونا إلى احترام الآخر وتقديره بذات القدر الذي نوده لأنفسنا منه ، وعلمنا أن نكون رحمة للعالمين ، للبشر والحجر والشجر ، للإنسان والحيوان والجماد ، لنحقق المقصد الأسمى لرسالة من بعثه ربه رحمة للعالمين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) حيث يقول الحق سبحانه : “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” .
ونتمنى للمؤتمر و منظميه والمشاركين فيه كل التوفيق مثمنين عاليا جهود منظميه شاكرين لهم هذا الجهد العظيم ، داعين إلى مزيد من إعلاء لغة الحوار والسعي إلى إنجاحه خدمة للإنسانية جمعاء.