تمثل الدعوة التى خرجت من مجلس الشيوخ لإعداد “استراتيجية دينية وطنية تنطلق من أرضية مصرية” سابقة ليس لها مثيل فى تاريخنا، وطبقا لما أعلن فإن “هذه الاستراتيجية تتضمن ثلاثة مشاريع: الأول طبع مصحف شريف يحتوى على هوامش تفسير وشرح للمشكل من الألفاظ، ويكون ورقيا وإليكترونيا، مسموعا ومطبوعا وبطريقة برايل، والثانى إعداد تفسير عصرى للقرآن الكريم يفهمه العامة والخاصة بلغة سهلة وأسلوب مباشر يعالج القضايا الفكرية والأخلاقية والاجتماعية المستجدة والمتطلبات المتسارعة وبعض الأيديولوجيات التى يطرحها المغرضون لتغيير هوية المجتمعات لتحقيق هوية وثقافة بعينها، ويصحح المفاهيم المغلوطة، والثالث إعداد موسوعة لكل الأحاديث والسنة النبوية الشريفة الصحيحة، تتضمن كل ما يتعلق بالعقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات”.
نعم، هذه الاستراتيجية سابقة ليس لها مثيل فى تاريخنا، لأن مشروعا دينيا ضخما كهذا يأتى فى العادة من طريق العلم والعلماء، وينسب لصاحبه، ولا يأتى بمبادرة ـ أو بتوجيه ـ من سلطة، ولو كانت سلطة تشريعية مثل مجلس الشيوخ، ومما يجعل القضية أكثر تعقيدا أن التصريحات التى قدمت هذا المقترح لم تخف أن اللجنة الدينية بالمجلس “عقدت عددا من الجلسات واللقاءات وورش العمل مع ممثلى الحكومة والمؤسسات الدينية كافة وأعضاء الشيوخ”، وهذه الإشارة العابرة كفيلة وحدها بأن تضفى ظلالا من التوجس لدى المشتغلين والمهتمين والمتابعين لهذا الجهد، الذى يمكن أن يبذل فى غير موضعه، ويأتى بمنجز من غير طريقه الطبيعى، فلا يعول عليه.
هذا ليس تشكيكا فى أحد أو فى أية جهة، وإنما محاولة للتفكير بصوت عال فى مآلات الأمور، نحن نحسن الظن بالجميع، ونعرف أن الهدف ليس بعيدا عن الأوجاع التى يعانى منها مجتمعنا، لكننا نريد أن نحتاط كى تأتى النتائج نافعة ومؤثرة، وأول ما يجب أن نحتاط له هو توفير مناخ الثقة فى هذا العمل الضخم حتى يكون خالصا لوجه الله والوطن، بريئا من أي مؤثرات وشبهات، خصوصا أننا نعيش زمنا تكثر فيه الفتن.
ولذلك ربما يكون من الأوفق أن يترك هذا العمل بالكامل لمؤسسات علمية مستقلة، تنضوى تحت مظلة الأزهر الشريف وعلمائه الأجلاء الموثوق بهم، فيضعون هم التفسير العصرى للقرآن الكريم، أو يعدون منتخبا من التفاسير العصرية الميسرة التى قدمها علماء أفاضل أمثال د.محمد سيد طنطاوى والشيخ الشعراوى والشيخ أبو زهرة وغيرهم.
قبل أن يتحدث مجلس الشيوخ عن أي تفسير عصرى كان عليه أن يفكر فيمن سيضع هذا التفسير، وكيف تتوفر له مصداقية تنأى به عن معارك “التوك شو” الليلية وما يطرح فيها من دعوات مصادمة للدين باسم الليبرالية والنسوية والعلمانية، مثل تغيير نظام المواريث والطلاق وإعادة تعريف الخمر والتسامح مع زواج المثليين والتبنى والانتحار والموت الرحيم وشرب السجائر فى نهار رمضان، وتنأى به أيضا عن هرطقات التجديد والتحديث التى تبشر بها قناة “الحرة” الأمريكية عبر وجوه مرفوضة شعبيا، تنفذ أجندات دينية مصنوعة خارج حدود الإسلام، وخارج حدود الوطن.
وليست مصادفة أن ما نراه اليوم من دعوات تصدر عن هؤلاء هو فى الحقيقة صدى لاستراتيجية مريبة أعلنتها مؤسسة “راند” التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون”، التى تعد أكبر وأغنى مؤسسة بحثية في العالم، أصدرتها فى تقرير نشرته على الإنترنت يوم ٢٦ مارس2007 في ٢١٧ صفحة تحت عنوان “بناء شبكات مسلمة معتدلة”، يؤصل لمفاهيم جـديدة للإسلام المعتدل المطلوب أمريكيا، إسلام يسقط الشريعة، ويقدم تفسيرات عصرية لنصوص القرآن والسنة تتوافق مع مقررات الأمم المتحدة، إضافة إلى تأجيج الصراعات الدينية داخل العالم الإسلامى بدلا من أن يكون الصراع بين المسلمين والغرب، والتأكيد الدائم على خطورة دور المسجد، ودعم العناصر الداعية إلى تحديث الإسلام، الذين يتبنون المفاهيم الأمريكية، ممن يعملون خارج المسجد، ويرفعون راية التعايش والاعتدال بعيدا عن الشريعة.
ومن الغريب أن تقرير “راند” كان صريحا في هـجـومـه على الأزهر ودوره، وأوصى بضرورة سحب البساط من تحت أقدامه، وتسليط الأضواء على أماكن أخرى لتخريج المعتدلين، كما أوصى بالبحث عن النصـوص الشرعية التي تدعم التيار المعتدل، وتقديم الدعم المالي لهذا التيار، وتكثيف استخدام أدوات المجتمع المدني لتكون البديل للجانب الاجتماعي في الإسلام.
الأخطر من ذلك هو الفصل الذي ضمه التقرير بعنوان “اختبار الاعتدال”، ويشتمل على قائمة من الأسئلة توجه إلى المسلمين، من يعبرها بنجاح يعد معتدلا، ويتم استقطابه ودعمه في مواجهة من يرسبون في الاختبار، وقائمة الأسئلة فى هذا الاختبار ليست إلا قائمة استجواب، تعتبر كل مسلم مذنبا حتى يثبت العكس، وتحض على الفتنة والاستفراز والإثارة، ومن هذه الأسئلة: هل أنت تدعم أو توافق على العنف؟ هل تؤمن بحق الإنسان فی تغییر دینه؟ هل توافق على تطبيق الشريعة؟ هل تؤمن بحق الآخرين في العيش في كنف قوانين علمانية؟ هل توافق على أن شخصا من الأقلية يحكم الأغلبية المسلمة؟ هل تؤمن بأن يكون النظام القانوني مستندا إلى طوائف؟
ثم بعد سنوات قلائل من إعلان هذه الاستراتيجية يأتى تونى بلير، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، الذى شارك بوش الابن ـ رئيس أمريكا الأسبق ـ فى غزو العراق وتدميره، ليعلن دعوة عالمية إلى نهج موحد لمحاربة الأصولية الإسلامية التى تمثل التهديد الرئيس للدول الغربية والمجتمع الدولى، ولا تتحدث دعوته عن أيديولوجيات الجماعات المسلحة التى نشأت وتضخمت بدعم وتمويل غربىين، وإنما عن الأصول والثوابت التى تؤمن بها الأغلبية المسلمة فى العالم.
لكل هذا يجب أن نحتاط، ونوفر المصداقية والثقة فى الأشخاص والجهات التى تتعامل مع الملف الدينى، حتى لا تكون الجهود والمبادرات مجرد حرث فى البحر، أو تأتى بنتائج عكسية.