أشرت فى المقال السابق إلى دور المؤسسة الدينية فى قضية بناء الوعى، وما تقوم به وزارة الأوقاف تحديدا، وكما عودنا الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، فإنه يحاول دائما تزويد المكتبة العربية والإسلامية بعناوين وموضوعات تثبر أغوار الفكر، وتسهم إسهاما حقيقيا فى معالجة القضايا المعاصرة التى لها أولوية وضرورة حياتية.
ومن هذه القضايا قضية بناء الوعى التى نحن بصددها، وتشكيل وعي الأمة أو بناء ذاكرتها، هو أمر ليس سهلا ولا يسيرًا، ولا يتم بين لحظة وأخرى أو بين عشية وضحاها، إنما هو عملية شاقة ومركبة، وأصعب منه إعادة بناء هذه الذاكرة أو ردها إلى ما عسى أن تكون قد فقدته من مرتكزاتها، فما بالكم لو كانت هذه الذاكرة قد تعرضت للتشويه أو محاولات الطمس أو المحو أو الاختطاف، ولا سيما لو كان ذلك قد استمر لعقود أو لقرون ؟!.
وإسهامًا من الدكتور محمد مختار جمعة فى ذلك، فقد أصدر كتابا بعنوان: “بناء الوعي” ليلقى الضوء على عدد من الموضوعات الهادفة إلى خلق حالة من الوعي بالواقع، والوعي بالتحديات، ومحاولة الإسهام في حلها أو فك شفرتها، أملا في الخروج من حالة التشظي والتأزم الفكري إلى حالة من الرشاد الفكري والديناميكية الفكرية التي تعمل على بناء الذاكرة وبناء الأمة معًا.
وقد تناول الدكتور مختار جمعة في هذا الكتاب عددًا من الموضوعات والقضايا الحيوية: دينية، ووطنية، ثقافية، ومجتمعية، مثل: إرادة التغيير، والوعي بالقضية السكانية، والوعي المائي، والوعي بخطورة المخدرات والإدمان، والوعي بمخاطر الإلحاد، وأهمية العمق الأفريقي، وفقه المواطنة، وبناء الدول، وحماية الأوطان، وحروب الجيل الخامس، وتفكيك حواضن الإرهاب، وخطورة الشائعات، والصورة الذهنية للأفراد والمجتمعات، والميثاق الغليظ، وفقه الحياة السياسية، وغيرها من الموضوعات.
وللإنصاف، فإن كل عنوان من العناوين السابقة يصلح أن يكون كتابا مستقلا أو موضوعا لرسالة ماجستير أو دكتوراه، ولكن الدكتور مختار جمعة استطاع أن يوفى كل هذه العناوين وتلك الموضوعات حقها بأسلوب سهل ممتنع باختصار غير مخل، وهو بذلك يحاول الإسهام في تشكيل وعي الأمة واسترداد ذاكرتها الرشيدة من خلال إعادة تنشيطها وتخليصها مما علق بها من شوائب في مراحل الاختطاف والتشويه جراء محاولات المحو أو الشطب أو التغييب، التي قام بها أعداء الأمة ومن وظفوه لخدمتهم من جماعات التطرف والإرهاب.
وإذا كان من حاولوا السطو على ذاكرة أمتنا قد استخدموا المغالطات الدينية والفكرية والثقافية والتاريخية للاستيلاء على هذه الذاكرة فإن واجبنا مسابقة الزمن لكشف هذه المغالطات وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وبيان أوجه الحق والصواب بالحجة والبرهان من خلال نشر الفكر الوسطي المستنير، في المجال الدعوي والثقافي والتعليمي والتربوي والإعلامي، وإحلال مناهج الفهم والتفكير والإبداع والابتكار محل مناهج الحفظ والتلقين والتقليد، مع اعتبار العمل على خلق حالة من الوعي المستنير واسترداد ذاكرة الأمة التي كانت مختطفة أولوية لدى العلماء والمفكرين والمثقفين وقادة الرأي والفكر.
على أن بناء الوعي يتطلب الإلمام بحجم التحديات التي تواجهنا لأننا دون إدراك هذه التحديات ودون الوعي بها لا يمكن أن نضع حلولاً ناجحة لها، وإذا كان المناطقة يؤكدون أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإن معالجته أو مواجهة ما يرتبط به من تحديات لا يمكن أن تتم دون سبر أغوار وأعماق هذا التصور.
هذا ما أكده المؤلف فى تقديمه لهذا الكتاب القيم الذى يستحق القراءة، معربا عن أمله فى أن يسهم هذا الكتاب – مع غيره من المحاولات الجادة لكل المهمومين بهم الأمة من السياسيين والكتاب والمفكرين والمثقفين والإعلاميين والمعلمين والتربويين الوطنيين – في إعادة بناء الذاكرة الواعية لمجتمعنا وأمتنا.
وإن شاء الله نستكمل الحديث فى هذه القضية، إن كان فى العمر بقية.