ساعات قليلة تفصلنا عن شهر عظيم من الأشهر الحرم، شهر التهيئة لشهر شعبان والتمهيد لشهر رمضان وهو شهر رجب، وهو الرُّجوب أي التّعظيم وذكر بعض العلماء أن لشهر رجب أسماء أخرى كثيرة منها رجب مضر: نسبةً إلى قبيلة مضر؛ حيثُ كانت هذه القبيلة تُبقي وقتَهُ كما هو دون تغيير ولا تبديل مع الأشهر الأخرى على عكس القبائل الأُخرى من العرب الذين كانوا يغيِّرون في أوقات الأشهُر بما يتناسب مع حالات الحرب أو السّلم عندهم. قال النبى: ((ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)) فقيَّده بهذا التقييد مبالغة في إيضاحه، وإزالة اللبس عنه، حيث قيل أنه قد كان بين مضر وبين ربيعة، اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبًا هذا الشهر المعروف الآن، وهو الذي بين جمادى وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبي إلى مضر.
وفضل رجب يدخل في عموم فضل الأشهر الحرم التي قال الله فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:36).
وعن أبو بكرة نفيع بن الحارث ((أنَّ النَّبيَّ خَطَب في حجَّتِه، فقال: إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئتِه يومَ خَلَق اللهُ السَّمواتِ والأرضَ، السَّنةُ اثنا عَشَرَ شَهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القَعْدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بين جُمادى وشَعبانَ))(سنن أبي داود)
وعن قتادة قال: “إنّ الظلمَ في الشهرِ الحرامِ أعظمُ خطيئةً ووزراً من الظلمِ فيما سواهُ، وإنْ كان الظلمُ على كلِّ حالٍ عظيماً، ولكنَّ اللهَ يُعظِّمُ من أمرِه ما شاء. وقال: إنَّ اللهَ اصطفى صَفايا من خلقِه؛ اصطفى من الملائكةِ رسلاً، ومن النّاسِ رسلاً، واصطفى من الكلامِ ذكرَه، واصطفى من الأرضِ المساجدَ، واصطفى من الشهورِ رمضانَ والأشهرَ الحُرمَ، واصطفى من الأيّامِ يومَ الجمعةِ، واصطفى من اللَّيالي ليلةَ القدرِ؛ فعظِّموا ما عظَّم اللهُ؛ فإنّما تعظَّم الأمورُ بما عظَّمها اللهُ عند أهلِ الفهمِ والعقلِ“.
وكما أنّ المعاصيَ تعظُمُ في الأشهرِ الحرمِ؛ فكذلك الحسناتُ والطّاعاتُ تعظُمُ وتُضاعفُ في هذه الأيّام؛ فالتّقرّبُ إلى اللهِ بالطّاعةِ في الشّهرِ الحرامِ أفضلُ وأحبُّ إليه سبحانه من التّعبُّدِ في سائرِ الأيّامِ؛ وجعل الذنب فيهنّ أعظم، والعمل الصّالح والأجر أعظم.
ومن مظاهر تفضيل الأشهر الحرم بما فيها رجب أن الصيام فيها مندوب، فعن عثمان بن حكيم الأنصاري قال: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب ونحن يومئذ في رجب فقال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: “كان رسول الله ﷺ يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم“.
وقول النبي للباهلي بعد كلام طويل: ((صمْ من الحرُمُ ِواتركْ)) ثلاث مرات، وأشار بأصابعه الثلاثة، حيث ضمها وأرسلها؛ إشارة إلى جواز الصيام والتطوع في شهر رجب وغيره من الأشهر الحرم لما له من ثوابه عظيم، سواء كان هذا الصيام في غرة الشهر أو في أوسطه أو آخره.
ومن المعروف أن الصيام وغيره من العبادات هي من فضائل الأعمال، لذا يجوز للمسلم أن يستزيد من الطاعات في شهر رجب لعموم فضل الأشهر الحرم والتعبد فيها.
ففي الأشهر الحرم ومنها شهر رجب نفحات وأنوار أمرنا النبي أن نتعرض لله بالطاعات فيها، فقال ((إِنَّ لِرَبِّكُمْ عزَّ وجلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لا يَشْقَى بَعْدَهَا أبدًا)) (رواه الطبراني).
والتعرض لنفحات الله هو التعرض لعطاءات الله العظيمة ولا شك أن هناك فرقًا بين العطاءات والخيرات، فعطاءات الله غير خيرات الله، فخيرات الله نأخذها بالحواس و يستفيد بها الجسم كالطعام والشراب، لكن عطاءات الله تنزل على القلب الذي صلح وصفا وطهر وأصبح جاهزًا لنزول العطاءات من رب العباد.
ففي هذه الأيام المباركة تنزل عطاءات من الله كأن يُنزِل الله السكينة في قلوبنا؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ}[الفتح: 4].
أو يُنزل الله في قلوبنا الطمأنينة؛ قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد: 28].
أوأن يجعل الله في قلب المؤمن نورًا يمشي به في الناس؛ قال تعالى: {أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}[الأنعام: 122].
وغير ذلك من العطايا التي يمُنُّ الله بها على عباده في نفحات الدهر، فعطايا الله لا تُعدُّ ولا تُحصى.
فاللّهمّ بارك لنا في رجبٍ وشعبانَ، وبلّغنا رمضانَ