د. عبدالحميد السيد: “حياة كريمة” ركيزة الجمهورية الجديدة
د. يوسف عامر: بـ”الوعى الرشيد” يتحقق “التجديد” المطلوب
د. نظير عياد: الترجمة المنضبطة ضرورة حياتية وفريضة دينية
كتب- مصطفى ياسين:
أكد علماء الدين وخبراء الترجمة والتربية والثقافة أن الدين إنما جاء كأسلوب حياة لصالح البشرية، إذا تمَّ تطبيق قيمه بشكل سليم وتفسير صحيح، مشيرين إلى ان المبادرات الرئاسية التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى باعتبارها ركيزة وسمة أساسية لمصر فى “الجمهورية الجديدة” إنما هى ترجمة عملية لتلك القيم الدينية.
جاء ذلك مع بدء فعاليات المؤتمر العلمي الدولي الرابع- بكلية الآداب بجامعة دمنهور، بعنوان “ترجمات معاني القرآن العظيم.. دراسات منهجية”، تحت رعاية د. خالد عبدالغفار- وزير التعليم العالى والبحث العلمى- اللواء هشام آمنه- محافظ البحيرة- ورئاسة د. عبدالحميد السيد عبد الحميد- نائب رئيس الجامعة لشؤون الدراسات العليا والبحوث- د. محمد رفعت الإمام- عميد كلية الآداب- بحضور عدد كبير من العلماء والخبراء والمشاركين من عدة دول عربية وأجنبية، منها: ليبيا، البحرين، اليمن، العراق، كندا، بلجيكا، ود. عيد مهدى بلبع- عضو مجلس الشيوخ- الشيخ ياسر الفقى- أمين عام مساعد الدعوة والإعلام بمجمع البحوث- واستُهِلَّت الفعاليات بالسلام الوطنى لمصر، والوقوف دقيقة حدادا على أرواح شهداء الوطن من أبطال القوات المسلحة والشرطة البواسل، وافتتحها القارئ الشيخ ممدوح عامر بآيات الذكر الحكيم، وأدارها د. أحمد شتيه، وتخللتها كلمات تسجيلية للرئيس السيسى، والإمام الأكبر، خلال الاحتفال بليلة القدر، وفيلم تسجيلى عن الراحل د. محمد محمود غالى- شيخ المترجمين- ومدائح نبوية لفرقة روضة المدَّاحين.
أشار د. عبدالحميد السيد، إلى أن القرآن الكريم تناول بين دفَّتيه كل القضايا والموضوعات المتعلقة بالمجتمع والاهتمام بالإنسان الصالح، وأهمية الدين كأسلوب حياة، مؤكدا أن ما يفعله الرئيس السيسى من مبادرات إنسانية هى ترجمة عملية لهذه القيم والمبادئ الدينية السمحة، وأن الجامعات المصرية تشارك فى تنفيذها انطلاقا من دورها المجتمعى والتعليمى والتثقيفى، ومنها هذا المؤتمر الهام، فضلا عن المشاركة فى كافة المبادرات الرئاسية لتحقيق “حياة كريمة” لكل مصرى كهدف رئيسى فى الجمهورية الجديدة.
توجيهات مهمة
أوضح د. يوسف عامر- رئيس لجنة الشؤون الدينية والأوقاف بمجلس الشيوخ، نائب رئيس جامعة الأزهر لشؤون التعليم والطلاب السابق- أن المؤتمر يأتي في إطار توجيهين مهمين للرئيس السيسي، التوجيهُ الأوّلُ: وكان قبل أكثر من ست سنواتٍ وهو “تجديدُ الخطاب الديني”، والثاني: قبل سنتين ونصف تقريبًا وهو “بناءُ الوعيِ الرشيد”، وهنا يتضحُ دَوْرُ الجامعاتِ المصرية في التجديد الواعي والتطويرِ وبناءِ الوعي الرشيد في كل شئ يحتاجُهُ الواقعُ المعيش.
أضاف: يقول الله تعالى: {…وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الإسراء:44)، ويقول: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام:19) أي ومن بلغه القرآنُ عليه أن يُنذرَ به.
وأمر الرسولُ المسلمين بتبليغ هذه الرسالة بقوله: “بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً”، ومن ثمَّ كان على كُلِّ مسلمٍ مستطيعٍ أنْ يُبلّغَ رسالةَ القرآنِ إلى مَنْ لم يَبْلُغَهُ القرآنُ، ومستحيلٌ أن يتعلمَ الناسُ جميعًا أو المسلمون كُلُّهُم اللغةَ العربية؛ حتى يتعرفوا رسالةَ القرآنِ، فكان لزامًا أن تصلَ رسالةُ القرآن إلى الناس جميعًا بألسنتهم في مشارقِ الأرضِ ومغاربها، ومن ثمَّ، كانت الحاجةُ ملحةً إلى ترجماتِ معاني القرآن إلى مختلف لغاتِ البشرِ ترجمةً تنمازُ بالدقة والأمانةِ في تبليغ الرسالة.
استطرد د. يوسف قائلا: اتضح لي من خلالِ عملي في مجال اللغات، وخبرتي في مجال الترجمةِ الدينية، وبخاصةٍ في ترجمة معاني القرآنِ الكريم والسنةِ النبوية المشرفة، أنّ اللغةَ الواحدةَ قد توجدُ بها أكثرُ من ترجمةٍ لمعاني القرآنِ مع اختلافٍ بيّنٍ بينَ هذه الترجمات، وهذا يرجعُ إلى اختلافِ المنهجيةِ التي يتّخذَها كُلُّ مترجمٍ في تفاعلِهِ مع كلماتِ القرآنِ وآياتِه، ولِتَوَجّهاتِ المترجمِ الفكريةِ والعقدية، واعتمادهِ على تفاسيرَ تخدمُ توجهاتِهِ وعقيدتِهِ.
ومن خلال تكليفٍ كنتُ قد شَرَفْتُ به من فضيلة الإمامِ الأكبرِ د. أحمد الطيب (شيخَ الأزهر) بتشكيل فريقِ عملٍ لترجمة معاني القرآنِ إلى مختلف اللغات والإشراف عليه، اللغات: (الإنجليزية والفرنسية والسواحيلية والعبرية)، توصلنا إلى التالى: أولاً: أهمُّ الأسباب التي تُسهمُ في وجود اختلافاتٍ بين ترجمات معاني القرآن على مستوى اللغة الواحدة ما يلي:
• الوجوهُ والنظائرُ في القرآن؛ فاللفظُ الواحدُ قد يحتملُ أكثرَ من معنىً، طبقًا للسياقِ الذي يردُ فيه.
• اختلافُ العلماءِ في إدراك المقصودِ من فحوى اللفظِ أو الآيةِ القرآنية.
• تَبايُنُ مناهجِ المفسرينَ في تناولِهم لبيان معاني ألفاظِ القرآنِ وآياتِه.
• التراكمُ المعرفيُّ المتجددُ في علوم القرآنِ وقضاياه خاصةً ما يتعلقُ منها بعلوم اللغةِ والبلاغة.
• إعجازُ القرآنِ في اشتمالِه على حقائقَ أدركَ بعضُها العقلُ البشري، وأخرى لم يدركْها بعد.
• الفجواتُ المعجميةُ بين لغاتِ البشرِ، التي تَنشأُ لاختلافاتٍ لُغويةٍ واجتماعيةٍ وبيئيةٍ، فضلاً عن العمق التاريخيِّ والثقافيِّ للغة العربيةِ ودراستِها اللغويةِ مُقارَنةً بحداثةِ ذلك فيما يتعلقُ باللغات الأخرى.
• صدورُ ترجماتٍ عن أفرادٍ ومؤسساتٍ ذاتَ توجهاتٍ مختلفةٍ ومُغرضةٍ.
• فضلاً عن أنه يأتي في مقدمة هذه العواملِ جميعًا درجةُ إتقانِ المترجمِ للُغَتَيّ المصدر والهدف؛ إذ تتفاوتُ درجاتُ المترجمين في إتقانهم للغة العربية – ولغةِ القرآن وطرائقِ النظم فيها على وجه الخصوص – واللغةِ المترجَمِ إليها، ومن ثمَّ، تتفاوتُ الترجماتُ بُعدًا وقربًا من المعنى القرآني ودلالتِه.
ثانيًا: ملاحظاتٌ على بعض الترجماتِ السابقة: ومع حفظِ كاملِ التقديرِ وعظيمِ الاحترامِ للجهدِ الجهيدِ الذي بَذلَهُ المترجمون في ترجمة معاني القرآنِ، فقد وقفَ ذلك الفريقُ على ملاحظاتٍ في أغلب الترجماتِ السابقة، منها: فاقدُ ترجمةٍ، فائضُ ترجمة، أخطاءُ مباشِرةٌ في التعبير عن المعنى، إغفالٌ لبعض المعاني البلاغيةِ والكنائية، استخدامٌ لتراكيبَ وكلماتٍ غيرِ مألوفةٍ لدى قارئِ اللغةِ الهدف، إسقاطٌ لترجمةِ حروفٍ عطفٍ، وكلماتٍ، وآياتٍ كاملةٍ، أو أجزاءٍ من آيات.
كما أنّ بعضَ الترجماتِ لا تراعي أهمَّ خصائصِ اللغةِ العربية، مثلُ علاماتُ الإعرابِ والبلاغةِ، ومن ثمَّ وقعت هذه الترجماتُ في أخطاءٍ خطيرةٍ، فعلاماتُ الإعرابِ والتشكيلِ تبرزُ المعنى المقصودَ كيفما كان موقع الجملة، وفي القرآن أساليبٌ عدةٌ تتسمُ بالمرونة، فتقبلُ التقديمَ والتأخيرَ دون أدنى لبسٍ أو اضطراب.
وهناك خطورةٌ أخرى في مثل هذه الترجماتِ السابقةِ تكمنُ في التعليقات والشروحِ والحواشي الخاصةِ بالترجمة؛ ففي عددٍ من هذه الترجماتِ تضليلٌ فكريٌّ وعقديٌّ وفقهيٌّ.
تحديات ومخاطر
وتحدث د. يوسف عامر، عن التحدياتُ التي تُواجهُ ترجمةَ معاني القرآنِ، فأجملها فى: تحدياتٌ تواجهُ مَنْ يحملْ شّرَفَ ترجمةِ معاني القرآنِ إلى أيِّ لغةٍ، أو مَنْ يريدْ مراجعةَ أيِّ ترجمةٍ لمعاني القرآنِ، منها: التحدي الأول: الآياتُ المتعلقةُ بالعقيدة الإسلاميةِ وتلك ذاتَ الطبيعةِ الخاصةِ بأصول الدين، مثالُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل: 93)، وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} (آل عمران: 54)، وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10)، وغيرها، فإذا ترُكت مثلُ هذه الآيات في إطار التفسير الظاهري فسوف يؤدي ذلك إلى مشكلةٍ كبيرةٍ عقائدية، وهو ما يقتضي من المترجمِ الرجوعُ إلى المتخصصين لمعرفة معاني مثلِ هذه الآياتِ ودلالاتِها ومدلولاتِها؛ حتى يستطيعَ الترجمةَ المطابقةَ لمعانيها ومفاهيمها حسب السياقاتِ المتنوعة.
النوع الثاني من التحديات: الآياتُ المتعلقةُ بالتشريع، أو ما يُعرفُ بآيات الأحكام، مثلُ قولُ اللهِ تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِياًّ كَبِيراً} (النساء: 34).
التحدي الثالث: الآياتُ المتعلقةُ بالجهاد والقتال.
توصيات مهمة
ونتيجة كل هذه التحديات، دعا د. يوسف عامر لتبنّى التوصيات التالية: الأولى: يقومُ قسمُ اللغةِ العربيةِ بكلية الآدابِ جامعة دمنهور بإعداد مجلدٍ أو أكثرَ يضمُّ أهمَّ ما قدمَهُ المتخصصون في اللغة العربية -من خلال هذا المؤتمر- من إشكالاتٍ تعرض لها العلماءُ في بعض المواضعِ في القرآن، والمبادئِ الأساسيةِ في فهمه، وكذلك إعدادُ مجلدٍ أو أكثرَ يضمُّ ما قدمه المتخصصون في اللغات والترجمة من دراساتٍ تطبيقيةٍ تتعلقُ بترجمة معاني القرآن، وتقديمِ هذين المجلدين لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر للاستفادة بهما في ترجمة معاني القرآنِ ومراجعاتِ الترجماتِ التي تُعرضُ عليه؛ وذلك حتى يتسنى الاستفادة من جهد الفريقين عند الترجمة، كل في تخصصه. وفي هذا تلاقحٌ للعلوم والمعارفِ، وتبادلٌ للخبرات، وتكاملٌ بين المؤسسات.
الوصيةُ الثانية: الواقعُ المعيشُ ومستجداتُه الفكريةُ المتلاحقةُ والمتسارعةُ يتطلبُ ترجمةً صحيحةً لمعاني القرآنِ إلى كُلِّ لغاتِ العالم، ترجمةً تُعبّرُ عن وسطية الإسلامِ واعتداله، وتستلهمُ الرُّوحَ القرآنيةَ المودعةَ بين دفتيه في صناعةِ الحضارة، وبناءِ الإنسانِ، وعمارةِ الأكوان، وتزيلُ الأفهامَ غيرَ الصحيحةِ والمعوجةِ التي تعلّقَ بها أهلُ التطرفِ (إفراطًا أو تفريطًا) والتكفيرِ فحادوا عن الفَهمِ الصحيحِ للقرآن، فشوهوا معالمَ هذا الدين الحنيف، وعليه انتشرَ التطرفُ (إفراطًا أو تفريطًا) بجميع صوره والإرهابُ بجميع أشكاله.
الوصيةُ الثالثةُ: عدمُ الفصلِ بين معاني القرآنِ، وما فسَّىرتهُ السنةُ المشرفةُ بالأحاديثِ الصحيحةِ الواردةِ عن النبي؛ حتى لا يتمُّ الفصلُ بين القرآنِ الكريمِ والسنةِ المشرفةِ.
حاجة إنسانية
من جانبه أكد د. نظير عياد- أمين عام مجمع البحوث الإسلامية- على حاجة الإنسانية كلّها إلى هذه القضية المهمّة التي ترتبط بالقرآن– كلام ربّنا- لفظًا ومعنًى، وهو ما يؤكد على أهميّة العناية بها؛ خصوصًا وأنها تحتاج إلى جهودٍ حثيثةٍ؛ لبيان معانيه وتنزيل أحكامه الشرعية على واقعنا بكلّ معطياته المعاصرة تنزيلًا يليق بقدسيّة هذه الأحكام، ويتوافق مع عظمة هذا النصّ المحكم وجلاله وكماله وتنزيهه.
واُثمِّن هنا بأهميّة موضوع التّرجمة لمعاني القرآن، وضرورة الاستفادة منها، واستثمارها في عرض الإسلام بعقائده وشرائعه وأخلاقه؛ باعتبار أنّ ذلك يساعد على تبليغ الدعوة إلى العالم أجمع، وفي الوقت ذاته يكشف عن فهمٍ سليمٍ يؤدّي إلى دعم التماسك الاجتماعيّ، والمشاركة في عملية العمران، والإسهام في بناء الحضارة الإنسانيّة المعاصرة، بما يؤكّد عظمة هذا الكتاب، وصلاحيته لكلّ زمانٍ ومكانٍ بما جاء به من أحكامٍ، وبما دعا إليه من أخلاقٍ وسلوكٍ، كما أثمّن رؤية المؤتمر فى الالتزام بالمنهجيّة العلميّة والفهم السليم عند ترجمة النّصّ القرآنيّ باعتباره نصًّا مقدسًا محكمًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أضاف د. عياد: على الرّغم من أهمية الترجمة وضرورتها باعتبارها وسيلةً من وسائل الاتصال الحضاريّ والتأثير الثقافيّ بين الأمم، وسبيلًا من سبل نقل المعارف والعلوم والخبرات المختلفة من حضارةٍ إلى أخرى، وقد كانت الترجمة في الحضارة الإسلاميّة أهمّ عوامل الحفاظ على التّراث العلميّ والثقافيّ للعالم القديم وتنقيحه وتطويره.
ولمّا شرع الغرب في تلمّس مخرجٍ من ظلام عصوره الوسطى يمّم وجهه شطر العالم الإسلاميّ يستلهم حضارته ونظمه عبر واحدةٍ من أوسع حركات التّرجمة التي شملت – كما يقول لويس يونغ – جميع المجالات، ومن خلالها تركت الحضارة الإسلاميّة بصماتها على جميع المستويات، وأسهمت بقدرٍ غير منكورٍ في تنوير القارّة الأوروبّيّة المظلمة.
ولا ريب أنّ ترجمة معاني القرآن تعدّ من أشقّ المحاولات وأصعبها التي تمّت في مجال التّرجمة على الإطلاق؛ وذلك لأنّ نقل معنى الآيات القدسيّة المحكمة إلى لغةٍ أخرى غير العربيّة ليس بالأمر السّهل، إلى جانب عجز لغة التّرجمة عن نقل التّركيب البلاغيّ للآيات وما تحمله من معانٍ وإشاراتٍ ومدلولاتٍ لا تظهرها إلا لغة القرآن المجيد التي نزل بها؛ وذلك دفعًا للأغاليط، ومنعًا للافتراءات، ودحضًا للأكاذيب؛ خصوصًا وأنّ ما يعيشه العالم من الأحداث المضطربة والمتلاطمة إلى حدٍّ مخيفٍ يهدّد الأمن والسّلم العالميّين سببه الفهم السقيم للدّين ومقاصده، وتأويل نصوصه تأويلاتٍ بعيدةً عن مرادها، وما ينشأ عن ذلك من التّصوّرات الوهميّة لأغراض الدّين ومقاصده، كلّ ذلك يشكّل النصيب الأكبر في هذه الأحداث، وما يستدرجه من عوامل الشّقاق والنّزاع وسوء التصرّف في المجالات المتعلّقة بحسن التعامل بين بني الإنسانيّة، في ضوء المراد الإلهيّ الذي من أجله خلق النّاس مختلفينلتتحقّق سنّة التّدافع من أجل الحفاظ على مقوّمات نهضة البشريّة في سائر المجالات.
هذا الخلل الذي فعل بالإنسانيّة ما فعل، كرّسه – مع الأسف الشديد – النظر الضيق لنصوص القرآن المقدسّة ولأعمال الفقهاء سلفًا وخلفًا، وقيام البعض بترجمتها ترجمةً بعيدةً عن قصد الشارع الحكيم.
ويمكننا أن نلمس ذلك- دون عناءٍ- من خلال العديد من التّرجمات التي صدرت عن فئةٍ ليست بالقليلة من المستشرقين، ومن لفّ لفّهم ودار في فلكهم،فجاءت بعيدةً عن المقصد، خاليةً من الموضوعيّة، معبّرةً في كثيرٍ من الأحيان عن جهلٍ بالنصّ واللغة التي نزل بها وطبيعتها وخصائصها وتراكيبها.
فمثلًا قام البهائيّون- قريبًا في هولندا- بإصدار ترجمةٍ جديدةٍ للقرآن باللّغة الهولنديّة الحديثة تخرج بالنّصوص القرآنيّة عن معانيها الدقيقة؛ إذ ابتعدت بالقرآن عن أسباب نزوله على سيّد البشر محمّدٍ- صلّى الله عليه وسلم- ممّا أثار غضب الجالية والمؤسّسات الإسلامية هناك.
كما تعدّ كذلك الترجمات التي قام بها كثيرٌ من المستشرقين من أسوء المحاولات التي تمّت في مجال ترجمة معاني القرآن على الإطلاق، فقد كان هدفها الوحيد إيجاد حاجزٍ بين القرآن وبين من يريد فهم الإسلام، ومن أجل ذلك شوّهوا معاني القرآن ومسخوها، إذ جهلوا أو تجاهلوا أيسر قواعد اللغة، جاعلين نظام التراكيب ومعاني المفردات العربية دبر آذانهم ووراء ظهورهم، دون محاولةٍ منهم لفهم معاني القرآن على الإطلاق، ولم يعتمد أحدٌ منهم البحث العلميّ المنضبط للوصول إلى الحقيقة، وهناك مغالطاتٌ كثيرةٌ في ترجماتهم، والفكرة السائدة فيها يمكن إجمالها في النّقاط الآتية:
1- القرآن ليس إلا مجموعة أقاويل متفرقةٍ وقصصٍ سمعها الرسول من علماء عصره من أهل الكتاب.
2- زعمهم أنّ الإسلام كان للعرب وحدهم.
3- محاولة التقليل من أهمية الإسلام ودعوة القرآن.
4- زعمهم أنّ نبوّة سيّدنا محمدٍ- صلى الله عليه وسلم- كانت حركةً إصلاحيّةً محليّةً مؤقّتةً ومقصورةً على أهل مكّة.
5- سعيهم المتعمّد إلى تشويه مقاصد القرآن وتفريغه من قدسيّته.
6- تعمّدهم قلب الترتيب المصحفي المأثور ووضع ترتيبٍ حسب أهوائهم وزعمهم الباطل، كما حدث في ترجمة (داؤود)اليهوديّ العراقيّ التي ظهرت عام 1956م، واخترع فيها ترتيبًا حسب النغمة الشعريّة للسّور والآيات، وجرّد الترجمة من أرقام الآيات، فضلًا عن النصّ العربيّ للمصحف.
7- تعمّدهم التقديم والتأخير والحذف لكلمات القرآن، واستخدام لغة الحوار الدّارج في ترجمة الآيات المقدّسة.
وغير خفيٍّ أنّ هذه الأقاويل التي قيلت إمّا بشكلٍ متعمّدٍ أو غير متعمّدٍ مردّها إلى أمورٍ، أبرزها:
الجهل باللغة العربية ونظامها، والجهل بالإسلام وحقيقته، واختلاف حقيقة اللّغات وقصورها عن استيعاب معاني القرآن العظيم، فضلًا عن تجاهل خصائص النّظم القرآنيّ المعجز.
وأكد د. عياد أنّ ترجمة معاني القرآن في هذا العصر على وجه الخصوص ترجمةً منضبطةً تعكس عظمة القرآن وجلالة مقاصده ضرورةً حياتيّةً، وفريضةً دينيّةً باعتبارها نافذةً مهمّةً جدًّا في تعريف الآخر بحقيقة الإسلام ومحاسنه، ولاشكّ أنّ هذا يمنح الآخر فرصة التعرّف على كلام ربّه العزيز الحكيم، فينشرح صدره بقبوله والاستسلام له، والعمل بما جاء فيه، أو على الأقلّ ينصفه ويحترمه ويقدّره حقّ قدره، خصوصًا مع وجود مقالاتٍ تعطي خطابًا مفزعًا مقعّرًا نتيجة تلك القراءات الانتقائيّة للنصّ الدينيّ وتفسيرها بعيدًا عن سياق اللغة وأدواتها، ومن ثمّ تكون مخاطرة الترجمة خطيرةً؛ لأنّه إذا لم يراع فيها ضوابط التعامل مع النصّ القرآنيّ وخصائص نظمه المعجز، أدّى ذلك إلى إبعاد الناس عن المعاني العظيمة، والقيم السّامية التي يحملهاالقرآن الكريم، فضلًا عن تعميق المفاهيم المغلوطة حول الإسلام.
وخلص د. عياد إلى مجموعة من التوصيات، منها:
1- يجب أن تكون ترجمات القرآن صادرةً عن المؤسّسات الدينيّة الرسميّة التي تعنى بنشر الدين الإسلاميّ بعيدًا عن تحريف الغالين وتأويل المبطلين.
2- ضرورة العناية والاهتمام من قبل المؤسّسات الأكاديميّة والأقسام العلميّة بكلّ ما كتبه المستشرقون حول القرآن، وتفنيد مزاعمهم الباطلة بشكلٍ منهجيٍّ سليمٍ يتوافق والنصوص الدينيّة والقيم الانسانيّة المعاصرة.
3- ضرورة أن تلتزم الترجمات المتعدّدة للقرآن بعقيدة أهل السّنة والجماعة التي حدّدها المذهب الأشعريّ الذي تبنّاه الأزهر لوسطيّته في فهم الإسلام، ولكونه يعرض العقيدة الاسلامية صافيةً خاليةً من كلّ الشوائب والأفكار الهدّامة والمنحرفة.
4- أهميّة التعاون والتكاتف بين جميع المؤسّسات العلميّة والدينيّة وبذل الجهود الحثيثة والمتنوّعة من أجل إعداد ترجماتٍ صحيحةٍ للقرآن بكلّ لغات العالم، حتى يصل الإسلام بعقيدته الصافية لجميع النّاس في ربوع العالم.
5- ضرورة رصد التّرجمات الفرديّة للقرآن التي وقعت فيها أخطاءٌ جوهريّةٌ فادحةٌ؛ من أجل بيان أوجه الخطأ والعوار فيها لتحذير الناس منها؛ إسهامًا منّا في حراسة هذا الدّين الحنيف، وتحمّلًا للأمانة التي كلّفنا الله بها على الوجه المطلوب.
6- ضرورة تعدّد هذه المؤتمرات والفعاليّات التي تناقش القضايا المشتركة بين الشّرق والغرب بهدف تعزيز قيم السّلم والرّحمة، وترسيخ قيم التعايش والتسامح ونشر صحيح الدّين.
الفهم الصحيح
وأكد د. محمد رفعت الإمام- عميد الكلية- أن ترجمة معانى القرآن تسهم بشكل كبير فى التعريف به وإزالة الشبهات والافتراءات التى روّجها أعداء الدين والحاقدون، مشيرا إلى ان الفهم الصحيح قد يصل بصاحبه دوما للحقيقة كما حدث مع “بشارة واكيم” والطيار الإيطالى الذى استمع للقرآن من إذاعة الشرق الأدنى أثناء الحرب العالمية، وبعد لقائه الشيخ محمد رفعت أعلن إسلامه.
التواصل الشعوبى
وأوضحت د. إيمان بركات- رئيس قسم اللغة العربية، مُقَرِّر المؤتمر- أن الترجمة تُعد من أبرز أدوات التواصل بين الشعوب المختلفة بغرض التبادل العلمي والثقافي والحضاري، وتحقيق الاستفادة القصوى بين العلوم المختلفة مع كل الحضارات. وقد استطاعت الترجمة بميادينها المتنوعة أن تسهم في تطوير الثقافات العالمية، وأن تؤثر في النهضة الثقافية والعلمية لما تقدمه من أدوار بارزة الأهمية بشكل عام، وللباحثين الأكاديميين بشكل خاص، وتتصدر ترجمة معاني القرآن أنواعَ الترجمات العالمية؛ لارتباطها بالقرآن؛ فالعلم يشرُف بشرف موضوعه، ويعظُم ببحثه ومضمونه، ومن هنا كانت فكرة المؤتمر وعنوانه.
أضافت: أن المؤتمر يُركز خلال اليومين المقبلين لتحقيق أهدافه ممثلة فى: ترسيخ السلم المجتمعي العالمي من خلال الخطاب الديني. إبراز أهمية ترجمة معاني القرآن إلى لغات العالم (132 لغة). البحث عن آليات جديدة لترجمة معاني القرآن. طرح مجموعة جديدة من المعايير اللغوية والبلاغية والثقافية المتعلقة بالترجمة. إبراز التواصل المتجدد بين اللغات العالمية في ترجمة معاني القرآن. تأصيل الدراسات البحثية والأكاديمية في مجال ترجمة معاني القرآن إلى لغات العالم. طرح رؤية استشرافية ومشاريع بحثية تخص القرآن.
تابعت: لذا فالمؤتمر يتضمن 8 محاور هى: الأول: خصوصية النص القرآني والترجمة، ويتحدث عن: مفهوم النص القرآني وخصوصيته. العلوم التي يحتاجها مترجم القرآن. إشكاليات الترجمة الفردية والجماعية.
أما المحور الثاني، فيتناول: الأبعاد الوظيفية في ترجمة الظواهر البلاغية. إشكاليات ترجمة الاستعارة .ترجمة التشبيه والتمثيل القرآني في سياقات مخاطبة المسلمين وغيرهم. الأبعاد الوظيفية في ترجمة العلاقات الضدية. النظم القرآني والترجمة.
والمحور الثالث، يتناول: تحليل تقييمي للترجمة فى ضوء السياق القرآنى .أثر السياق اللغوي والترجمة .المتشابهات والمتلازمات اللفظية والسياقية والترجمة. السياق الخارجي.. مستوى أسباب النزول. السياق الداخلي: مستوى تعدد القصص والموضوع في السورة والترجمة.
والمحور الرابع يبحث: موقف المستشرقين من ترجمة القرآن. موقف المستشرقين من ترجمة القرآن. بواعث الترجمة الاستشراقية وموقفها من ترجمة معاني القرآن. الاستشراق وترجمة القرآن. السياق الثقافي للمترجم وأثره في الترجمة.
أما المحور الخامس فيتناول: الترجمة وتعلم اللغة العربية للناطقين بغيرها. طرق الفوناتك ( phonetics ) والفونولوجي ( phonology) المتطورة وتعلم اللغة العربية. تطوير القواعد الصوتية والترجمة. معطيات الذاكرة الحاسوبية وتعلم القرآن (وفق ضوابط ومعايير خاصة). الطريقة النورانية بين التقليد والتطوير.
ويبحث المحور السادس: التكامل بين العلوم وترجمة معاني القرآن. التكامل بين العلوم العربية والإسلامية والترجمة .الإعجاز النفسي في القرآن وترجمة معانيه. الإعجاز الغيبي وترجمة معاني القرآن.
ويناقش المحور السابع: دور ترجمة معاني القرآن في بناء الوعي الرشيد .الترجمة والخطاب الديني المعاصر .آليات الحوار الحضاري المعاصر ودور الترجمة. المنهجية القرآنية في إبراز جوانب الهوية الإنسانية وترجمة معاني القرآن. الإسلام والتأكيد على السلم المجتمعي العالمي وتجديد الخطاب الديني وترجمة معاني القرآن.
فى حين يتناول المحور الثامن: ترجمة معاني القرآن والرقمنة. آليات عمل ذاكرة عالمية لترجمة معاني القرآن وفق ضوابط ومعايير محددة. التجويد والرقمنة. استخدامات القواعد الصوتية المتطورة لتعليم التجويد للأجانب
(Using phonological rules to understand Tajweed internationally)
.( (International Phonetic Association
أضافت د. إيمان: تنوعت القيم العلمية للملخصات البحثية وأثارت الربط بين الخطاب القرآني والواقع المعاصر فتناولت بعضها بناء الدولة والتنمية الاقتصادية ودور القيادة المصرية الواعية فى ذلك، الحفاظ على الأمن والأمان وهما اساس الاستقرار واهم سبل السلم المجتمعي العالمى، وهناك ملخصات بحثية عن المرأة والأسرة والتنمية البشرية والعقلية والنفسية للإنسان.
وألقى د. محمد محمود أبو على- أستاذ البلاغة والنقد- كلمة اللباحثين المصريين، مستعرضا فى الحديث عن “المصدر والهدف” أى معانى القرآن واللغة المترجَم إليها، مؤكدا ضرورة الحاجة لـ”ترجمة مستنيرة”.
كما ألقى د. إبراهيم طلعت البياتى- بالجامعة العراقية- كلمة مسجَّلة باسم الباحثين العرب، مطالبا بوجوب الدقة فى التعامل مع النص القرآنى عند الترجمة.