تنتاب الأسواقَ حالةٌ من التَذَبْذُبَات بل التَقَلُّبَات الحادَّة والشديدة فى قيمة الأسعار، لكلِّ السلعِ تقريبا، بل الخدمات أيضا- سواء كانت محليّة أو عالميّة- لدرجة أنها لم تعُد تستقرُّ على وضعٍ مُحدَّدٍ حتى لو يوم واحد! بل إن بعض التُجَّار يُغيِّر السِعرَ فى اليوم الواحد أكثر من مرَّة، وأحيانا يتغيّر السعرُ وأنتَ واقفٌ تشترى احتياجَاتك، بل تُمنع من شرائها وتُوقَفْ حركة البيع والشراء، فى وضع مأساوى أشْبَه ما يكون بالفوضى الخَلَّاقة! وأقصد بها الفوضى المُخَطَّطة والمُدبَّرة لإشاعة جوٍّ من عدم الأمان والاستقرار، وإيقاع الناس فى الدَرْكِ الأسفلِ من الإحباط واليأس، وإشاعة عدم الثقّة بين الشعب ومسئوليه، وإنهاء حالة التماهى والتقارب القائمة حاليا.
والحُجَّة التى يُصدِّرها أولئك المُغالُون فى الأسعار، هى “الدولار” الذى أصبح حديث الصباح والمساء لكل مواطن!
صحيح أن كثيرا من سِلعِنا ومنتجاتِنا مرتبطةٌ بشكل أو آخر بالعُمْلَة الصعبة، وأن الغلاء والاضطراب فى الأسعار حالة عالميّة، نتيجة الأزمة الروسيّة الأُوكرانيّة وتَبِعَاتها، وقبلها جائحة كورونا، وحاليا أزمات دوليّة متتاليّة فى عددٍ كبيرٍ من بقاع العالم، ما بين اقتصاديّة وسياسيّة وعسكريّة وغيرها، وبطبيعة الحال العالَم كُلُّه يتأثّر تِباعا، كما تُحْدِثُ “الطوبة” أمواجا متلاحقة إذا أُلقيت فى الماء.
وصحيح كذلك، أن الدولة المصرية تبذل قصارى جهودها لكبح جماح الأسعار، والتخفيف من حِدَّة وقَسْوَة الأزمة الاقتصاديّة على جميع المواطنين، وخاصة ضعيفى ومحدودى الدخل، بـ”حِزَمٍ” اجتماعية واقتصادية متنوّعة، وكذا قرارها بإجبار البائعين على وضع التسعيرة وإبرازها على كل سلعة، لكن كل هذه الجهود لم تعد كافية فى ظلِّ الانفلات والسُعَار المحموم الذى يُمارسه للأسف الشديد قِلَّةٌ من الجَشِعين الذين لا يَهِمَّهُم إلا مصالَحهم الشخصية نحو الإثراء السريع دون النظر لمصدره أو عواقِبه التى تضُر بل تؤذى الجميع والأوطان ذاتها.
لا أحد يُمانع فى سعى الجميع عن التجارة والمكسب والربح، لكن كل شئ بالمعقول وبالأخلاق، وليس الجشع والنهب واستغلال وقت الأزمات وممارسة الاحتكار والتدليس والغِش، لا نريد الخسارة لأحدٍ وإلا لما استمر فى عمله ومِهْنَته، لكن بالتزام أخلاقيات التجارة والكسب الحلال والبُعد عن الحرام والذى ينعكس بلا أدنى شك فى حياةِ المُسْتَغِلِّ والمُحتَكِر، ويجنى حصادَه المُرَّ فى أبنائه وبيته، وما أصعبه من حصاد؟! لأنه وضَعَ نفسَه موضِع الّلعن- والعياذ بالله- كما حذَّر سيّدنا رسولُ الله بوصفه المحتكر بأنه “ملعون” أى الطرد من رحمة الله، فهل الذى يكسبُه التاجرُ جرَّاء احتكاره لأى سلعة أو خدمة يستحق أن ينتظر جزاءه اللعن فى الدنيا والآخرة؟! فعلى كل تاجر أن يحسبها صح.
للأسف الشديد لقد أخرجت الأزمةُ التى نمُرُّ بها- ونحن جزءٌ من العالَم- أسوأ ما فينا، خاصة فى الأسواق وأماكن التجارة التى تحوَّلت إلى “أسواء” جمع سوء، وليست أسواق جمع “سوق”، مع الاعتذار للغّة العربية وحُرَّاسِها!
ويظل الدور الأكبر والأهمّ علينا نحن المستهلِكين بالمساهَمة الجادّة والفاعلة فى “إرخاصِ” الأسعار، بالاستغناء عن السلع، والاكتفاء فقط بالضرورى، حتى وإن اقتضت الظروف تأجيل تلبية بعض الاحتياجات لـ”حِين مَيْسَرة”، واللهَ نسأل أن يكشف الغُمَّة ويُنهى الأزمة وتعود الحياةُ لطبيعتها، ويعم الرخاء، إنه هو القادر على كل شئ.