يطيب لنا في البدء أن نسجل خالص التقدير للزملاء العلماء من أعضاء المراكز البحثية والجامعات المصرية والعربية والأجنبية الذين أناروا رؤيتنا بفكرهم وطالبوا بالاستزادة في الموضوع .
إن تجديد الفقه مهمة ملقاة لا محالة على أهل المعرفة الفقهية الكبار قبل غيرهم .. ولا مناص لهم من ذلك ، بل لا يجوز لهم التراجع عن الاضطلاع بهذا الدور أو التنكب عن القيام بهذه الرسالة بأي حال من الأحوال ؛ ذلك لأن نكوصهم أو تراجعهم عن القيام بأعباء هذا الدور من شأنه تجميد الفقه ووضعه في ثلاجة التاريخ ، ومن شأنه فتح الباب على مصراعيه أمام خصوم هذا العلم الشريف ، وأمام نقاد الدين الإسلامي بشكل عام ، ومنحهم الفرصة للتطاول على عطاءات العقل الإسلامي على مسار التاريخ .. ولنا أن نتساءل : مَن يتصدى لتجديد الفقه إذا تخلى عن ذلك كبار علماء الأمة في الجامعات ومراكز البحوث والمجامع العلمية في العالم الإسلامي من أقصاه ذات الشرق إلى أقصاه ذات الغرب ؟ أنتركه لرويبضة العلم والمعرفة الذين هم عالة على العلم قبل أن يكونوا عالة على العلماء ؟!! .
من هنا ففقهاء الأمة في المراكز البحثية والمجامع المعنية بالثقافة الإسلامية لابد وأن يكون لهم دورهم التاريخي في تجديد هذا العلم الشريف في مرحلتنا الحضارية الراهنة .. وننوه إلى أنه لا يجوز لعلماء الأمة وضع الرؤوس في الرمال أو الزعم بأن باب الاجتهاد لم يُغلق ، أو الزعم بأن التجديد لم يُحارب في فترات معينة من التاريخ الإسلامي ؛ لأن الواقع التاريخي بين أيدينا يشهد على غير ذلك تمامًا ، فكم من الفقهاء عُذب وكم من العلماء عوقب لاجتهاده ، وأبرز الأمثلة على ذلك محنة الإمام ” أحمد بن حنبل ” وحرق مؤلفات ” ابن رشد ” .. ولم يكن لأحدهما جريرة غير أنه فكر وتدبر واجتهد وقال بما فتح الله عليه .
ولقد أراد بعض نفر من الفقهاءغلق باب الاجتهاد ووصد أبواب التجديد ، لدرجة أن بعضهم أشاع مقولة لا معنى لها على المستوى الفكري ولا قيمة لها على المستوى العلمي ، إنها مقولة تعبر عن الانغلاق الفقهي والتحجر الإدراكي ، بل تروج للحجر على عقل كل من يحاول الاتجاه صوب التجديد والاجتهاد والإضافة .. هذه المقولة تتمثل في قولهم : ” لم يترك الأوائل للأواخر شيئًا إلا قالوه ” .. ولا شك أن هذه مقولة تهدف إلى إغلاق باب التفكير وسد كل الطرق المؤدية إلى التجديد .. إنها مقولة تختزل دور العقل الحديث في حفظ ما قاله القدماء ، وتقصر جهده على اجترار ما سطره السابقون .
ونؤكد على أن دراسة إنتاج القدامى من أهل العلم والمعرفة هو أمر له ضرورة قصوى في فهم الدين ، ومعرفة أحكامه ، والوقوف على مقاصده .. لكن الوقوف عند محض دراسة القديم وحفظه هو بمثابة المحاولة لإيقاف الزمن ، وهو أيضًا بمثابة السعي صوب نسخ الكتب في الرؤوس التي تحفظها ليس أكثر .
إن معرفة ما قاله علماؤنا القدامى والإلمام به هو خير وبركة ، أما التفاعل معه ، ومحاولة تجاوزه ، والإضافة إليه وفق ما تسمح به ثوابت الدين ليس أقل من حفظه في الفضل والفضيلة إن لم يكن أكثر منه في الخيرية والإصلاح ؛ لكونه يمثل نقلة معرفية وإضافة حضارية ، وبرهانًا واضحًا ودليلًا قويًا على صلاحية الدين الحنيف لكل زمان ومكان .
إن رفض التجديد أو الخوف من نتائجه قد يأتي من ذوي النوايا الحسنة الذين يملؤهم الخوف على دين الله الحنيف ، وقد يأتى من ذوي المعرفة الضيقة والعقول التي لم تعتد عليه ولا تمتلك آلياته .. فهؤلاء وهؤلاء يرون – لحسن نواياهم – أن التجديد في كل الحالات هو تبديد .. أما ذوي الأفهام الثاقبة والرؤى الحكيمة فيدركون أهمية السعي نحو التجديد ، بل ضرورته للإسلام والمسلمين ما دام للحياة حياة ومادام للوجود وجود .
إن تاريخنا يثبت أن حكماء المسلمين الأفذاذ لم يخشوا التجديد ولم يهابوه ، بل أقبلوا عليه بثقة في الله وثقة في دينهم ، معتمدين على فهمهم الواعي للدين الحنيف ، ومعتمدين كذلك على إدراكهم بأن الحياة تتطور كتطور عمر الإنسان ، فهي لا تقف عند مرحلة معينة ، وإلا تكلست الأفكار وتحجرت الرؤى .. لقد أدركوا أن حركة الحياة تقتضي حركية في الفهم والاستيعاب ، مع ثقتهم بأن العقول والأفهام البشرية لديها القدرة والمقدرة على الاستنتاج والاستنباط إذا توافرت لها آليات الفهم الواعي وتيسرت لها سبل الإدراك السليم .
ولولا إيمان إمام دار الهجرة الإمام ” مالك بن أنس ” – يرحمه الله – بأهمية التجديد وضرورته لاكتفى بحفظ مذهب الإمام ” أبي حنيفة ” – يرحمه الله – ، ولولا وعي الإمام ” محمد بن إدريس الشافعي ” – يرحمه الله – بأن التجديد هو من أصول الفهم السليم لجوهر الدين لاكتفى بتدارس الفقه المالكي وحفظه .. وهكذا نفهم جهد ومجهود جميع الأئمة ممن جددوا من علمائنا الكبار ومجتهدينا الثقال .
ولقد أثبت تاريخ الفقه الإسلامي أن المترددين في التجديد كثيرًا ما تراجعوا عن مواقفهم ونكصوا عن اعتراضاتهم عندما كشف لهم الزمان عن خطئهم وضعف محصولهم في كثير من القضايا التي عارضوها ورفضوا تأييدها .. ونذكر من الأمثلة على ذلك ، ذهاب بعضهم إلى تقسيم العالم – في مرحلة ما – إلى ” دار حرب ودار إسلام ” ، ومع تطور الزمن ، وتوالي الأحداث غيَّر جماعة من الفقهاء المجتهدين هذا التعبير فتحول إلى ” دار دعوة ودار إجابة ” .. يزاد على ذلك أيضًا وقوف بعض الفقهاء المحدثين موقفًا سلبيًا من ” الديموقراطية ” حيث رفضوها واعترضوا عليها ، لدرجة أنهم هاجموا ” لطفي السيد ” في انتخابات البرلمان عام ١٩١٣ م بحجة أنه ديموقراطي .
ثم أدرك بعد ذلك بعض الفقهاء أن الديموقراطية تتفق مع الشورى في كثير من الأمور ، فهي تحافظ على الإنسان الفرد ، وتعطيه الحق في أن يقول رأيه من دون خوف أو وجل ، وأنها تدعو إلى المساواة بين الجميع .. ورأوا أن الإسلام لا يتعارض مع هكذا أطروحات .. من هنا غيَّر بعضهم المواقف وبدّل الرؤى ، أو على الأقل خففوا من نقدهم لها .. ثم ذهبوا بعد ذلك وترشحوا في الانتخابات تحت مظلة الديموقراطية .. وقد جاء علينا الزمن الذي نرى فيه أن مَن أراد أن يضع نفسه في صورة حسنة من أولياء الأمور يقول عن نفسه : إنه ديموقراطي .
ومما نذكره في هذا السياق أيضًاأن الجامدين من بعض الدارسين قد هاجموا الأستاذ الإمام ” محمد عبده ” عندما أجاز للمسلم استخدام التليفون .. والغريب أن منهم مَن فسَّق الرجل لكونه أجاز للمسلم أن يرتدي البرنيطة .. ثم جاء الزمان وتجاوز الفقهاء المحدثون كل هذه المواقف التي تتسم بالانغلاق ، أو على الأقل يقال في أصحابها : إنهم لهم من حسن النية أكثر مما عندهم من العلم والمعرفة .
وثمة نقطة لها أهميتها في هذا السياق ، وهي أن هناك مَن يتصور أن إبداء الرأي الفقهي في القضايا المعاصرة هو نوع من التجديد .. وننوه إلى أن إبداء الرأي في القضايا المعاصرة ليس تجديدًا بل هو حكم فقهي في قضايا ونوازل ومستجدات معاصرة ، أما التجديد فهو يتعلق بالنظر في بعض الأحكام القديمة التي تحتاج إلى تجديد وإعادة نظر فيها ، على النحو الذي ذكرناه فيما يتعلق بالموقف من تقسيم العالم ، وما يتعلق بالموقف من الديموقراطية … وغيرها .
وعلى كل حال فإن هذا لا يجيز ألبتة لأنصاف الملمين بالعلوم الشرعية – من عشاق الظهور الإعلامي والميديا – أن يتصدوا للضرب ذات اليمين وذات اليسار في قيم الإسلام ومبادئه وأحكامه بحجة التجديد ، على النحو الذي يراه الناس على الشاشات أو على مواقع التواصل الاجتماعي .
وننوه هنا إلى أمرين :
أولًا : لا نعني بهذه الرؤية أن يجدد أحدهم رؤية هنا أو مسألة هناك ، بل نعني به حث المراكز والجامعات والمجامع الدينية على بذل الجهد من أجل صياغة وتدشين ما يمكن أن يأخذ شكل مذهب فقهي معاصر يتبناه أزهرنا الشريف ومجمعه الخالد للبحوث الإسلامية ، وذلك مع جامعتي الزيتونة والقرويين .
ثانيًا : واضح أن خطابنا هذا موجه إلى مراكز البحوث والمجامع العلمية بالعالم الإسلامي في عمومه وعلى إطلاقه .
والله تعالى من وراء القصد