قال فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم: إنَّ من المعالم الأساسية للشريعة الإسلامية الغراء المرونةَ واليسرَ والوسطيةَ، وتلك السماتُ هي التي تجعل أحكامها المطهرةَ صالحةً لكل زمان ومكان ومراعية لما يحقق مصالح العباد في العاجل والآجل، ودارئة عنهم جميع المفاسد والشرور في الدين والدنيا معًا.
وأضاف أن هذه السعة والمرونة في أصلها معانٍ قرآنية تجلت في كثير من آيات الله تعالى، منها قول الله- تعالى-: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [سورة البقرة:185]، وقوله- تعالى-: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ [سورةالمائدة:6].
جاء ذلك خلال المحاضرة التي ألقاها فضيلته أمام الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي تحت عنوان: “سعة الشريعة الإسلامية ومرونة الفقه الإسلامي”.
وأشار فضيلة المفتي إلى أن هذه الأصول كذلك هي أصول نبوية راسخة، دلت عليها السنة النبوية الشريفة قولًا وفعلًا، فمنها ما أخرجه البخاري في صحيحه: أن النبي ﷺ لما بعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن قال لهما: «يَسِّرَا ولا تُعسِّرَا، وبشِّرَا ولا تُنفِّرَا، وتطاوعا ولا تختلفا»، وهي وصية نبوية من جوامع كلمه ﷺ تمثل الرسالة التي أراد النبي ﷺ أن يبعث بها أصحابه إلى أقطار الدنيا، وهي أن هذه الشريعة إن كانت تتمثل في شيء فإنما تتمثل في السعة والمرونة والتيسير على الخلق، ورفع الحرج عنهم. وقد لخص الحبيب المصطفى هذا المعنى في عبارة وجيزة بليغة من جوامع كلمه الشريف صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ).
وأوضح فضيلة المفتي أن المرونة قبل أن تكون عمل الفقيه ومسلكًا للمجتهد هي معلم أصيل من معالم الوحيين الشريفين، وإنما تنوعت مناهج العلماء في المرونة والتيسير تبعًا لإدراكهم أصالة ذلك المعنى في شريعة الإسلام، وتلك المرونة هي التي تسمح للفقهاء والمجتهدين بالاجتهاد والتجديد في القضايا المعاصرة، وتلك المرونة هي التي تجعل الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وموفية بكافة الإجابات عن الأسئلة التي تشغل الناس في هذا العصر في شتى المجالات، سواء أكان ذلك في مجال العبادات أم المعاملات.
وأشار إلى أنه قد تفرع عن هذا المفهوم الأصيل في الإسلام أصول وقواعد قد استثمرها فقهاؤنا الأجلاء على خلاف مذاهبهم ومناهجهم في البناء التشريعي الذي قامت عليه المذاهب والمدارس الفقهية المتعددة، فتكونت ثروة فقهية لها خصائص وسمات متمايزة ومتعددة، لكنها جميعًا تشترك في مراعاة التيسير والمرونة وتحقيق المصالح ومراعاة المتغيرات والمستجدات والنوازل، مضيفًا أن ذلك قد تمثل على مستوى النظريات الأصولية التي بنيت عليها الفروع الفقهية، وعلى مستوى الفروع نفسها، والأحكام المستنبطة منها، وكذلك على المستوى التطبيقي في الإفتاء والتنزيل على الوقائع، وهو أوسع دوائر الفقه الإسلامي إظهارًا لهذه السمة من سمات التشريع، وذلك من خلال التأكيد على مرونة الفتوى وتغيرها، ومراعاتها لجانب الواقع بشكل أكبر أثرًا حتى من الجانب الفقهي النظري.
وتابع فضيلته: “لذلك كان تنزيل الأحكام على الوقائع عملية دقيقة، تحتاج إلى بصيرة بالنظر الفقهي السديد، وتحتاج كذلك إلى إدراك الواقع بدوائره الواسعة وعلومه المتجددة، حتى تحقق تلك الفتاوى والأحكام مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، وتراعي أحوال الأفراد وظروف المجتمعات المختلفة والمتعددة في طبائعها وثقافاتها”.
وأضاف فضيلته أن مراعاة المرونة والسعة قد أثرت في مجال أصول التشريع قبل الفروع، فإن الأصوليين جميعًا يوسعون باب النظر في منطوق الشريعة ومفهومها وفق ضوابط وقواعد تضبط قضية التيسير والمرونة وتحافظ على وسطية أحكام الشريعة بين الإفراط والتفريط، ويتجنبون كذلك الاقتصار على الأخذ بظواهر النصوص والجمود عليها، فتكلموا بعمق عن مفهوم الاجتهاد والقياس وأكدوا على ضرورة إدراك علل الشريعة، ومعانيها الجامعة، وهو ما يدل على إدراك الفقهاء إدراكًا تامًّا لقضية تعدد الوقائع واختلافها مع انحصار النصوص وتناهيها، مما يلزم عنه وجود قدر من المرونة في التوصل إلى أساليب إعمال قواعد الشريعة كما سماها الإمام الجويني، فيثمر ذلك سعة في الفقه، ومرونة في تنزيل الوقائع لمن تمرس بتلك الأساليب.
وأشار فضيلة المفتي إلى أن من أبرز أصول التشريع دلالة على المرونة والتيسير الأخذُ بمفهوم المصلحة المرسلة، واعتباره أصلًا شرعيًّا تبنى عليه الفتاوى والأحكام، حتى وإن لم يرد شاهدها منصوصًا عليه، وذلك باب واسع من أبواب التعامل مع الوقائع والقضايا المختلفة، التي لها مناسبات شرعية معتبرة، لكن لم يرد بها نص أو شاهد.
وأوضح فضيلة المفتي أن الأصوليين والفقهاء قد تكلموا على اختلاف مذاهبهم أيضًا عن ضرورة مراعاة واعتبار العرف المستقر المتلقى بالقبول من أصحاب العقول السليمة في الفتاوى والأحكام ما لم يتغير أو يتبدل وما لم يكن عرفًا فاسدًا مخالفًا لثوابت الدين ، وهو ما عبر عنه الإمام القرافي بقوله: «أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها»، وهو يذهب إلى أبعد من ذلك ويرى وجوب مراعاة التجدد الذي يطرأ على الأعراف، واختلاف الأقاليم، فيقول: «مهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط فأسقطه».
وأشار إلى أنه من خلال تتبع مسالك الفقهاء والمجتهدين في الفقه الإسلامي نشأت وتولدت القواعد الفقهية التي استخلصت من فروع الفقه الإسلامي، ومن القواعد الكبرى التي تسري في الفقه الإسلامي بشكل عام قاعدة (المشقة تجلب التيسير). ومن لطيف كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه تعبيرًا عن هذا المعنى (أنه كلما ضاق الأمر اتسع) فمن مرونة الشريعة الإسلامية أنها لا تعامل المكلفين كلهم مع اختلاف أحوالهم معاملة واحدة؛ فليس المريض العاجز عن استعمال الماء في الطهارة كالسليم المعافى، وليس العاجز الضعيف عن القيام في الصلاة كالقوي الصحيح، وليس الفقير المحتاج كالغني الموسر في باب الزكاة، وليس العاجز عن القتال في سبيل الله تعالى كالقادر عليه، ومن هنا نشأ باب عظيم في الشريعة الإسلامية يسمى باب الرخص في العبادات، والرخصة قد تعفي المكلف من بعض التكليف إن كان عاجزًا عن بعضه، كالسماح لغير القادر عن الصلاة قائمًا أن يصلي جالسًا أو نائمًا حسب استطاعته، وقد تعفيه من التكليف كله إن لم يكن مستطيعًا له بالكلية، كرفع تكليف الزكاة عن الذي لا يملك نِصابًا، ورفع تكليف الحج عن الذي لا يستطيع الحج ولم تتيسر له أسبابه.
وقال فضيلته: “أما جانب المعاملات فالأصل الشرعي في هذا القسم من التشريع المرونة والسعة، وقد يبدو ملمح المرونة والتيسير في الإسلام بشكل أوضح في جانب المعاملات حيث إن المعاملات متجددة متغيرة بخلاف العبادات”، موضحًا أن معنى المرونة فيها أي أن يلاحظ فيها من الناحية الاجتهادية ما يطرأ عليها من التَّغيُّر وأن يكون الاجتهاد فيها متسعًا بما يحقق المصالح ويدرأ الضرر والمفاسد، ويحكم هذه المرونة خطوط عريضة، وقواعد عامة، ومبادئ أساسية، وهي المبادئ والقواعد التي نستطيع رصدها في أمرين مرتبطين ببعضهما تمام الارتباط.
وأضاف أنه يتفرَّع عنها كل ما نجده في أبواب فقه المعاملات في الإسلام من قواعد وضوابط وأحكام، ونرصدها في أمرين اثنين:
الأمر الأوَّل: أنَّ القاعدة في أمور المعاملات عموماً أنها غير مشروعة لذاتها بل شرعت مراعاة لتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية المتمثلة في تحقيق المصلحة العامة والخاصة للناس جميعاً. وهي التي تعرف بالكليات الخمس، وهذه المقاصد هي حفظ الدين والعقل والنَّفس، والمال، والنَّسل.
وأكد فضيلته أن هذه الأمور مرعية ملاحظة بقوة في جانب المعاملات بمعناها العام الذي يشمل تعامل المسلم مع المسلم، وتعامله مع غير المسلم، سواء كان هذا التعامل في تبادل المنافع، أو في طلب الحقوق، أو في دفع ظلم إلى غير ذلك.
وتابع: “إن أصول التشريع الإسلامي في جميع المذاهب في باب المعاملات والعقود المالية قائمة على رفع الغَبن، والغش، والغرر، والضرر، والجهالة، وكل ما يفضي إلى إحداث نزاع أو خصومة بين المتعاملين، وقامت كذلك على مبدأ انتقال وتلقي الأموال والمنافع بالطرق المشروعة التي لا تحدث ضرراً بالأفراد ولا بالمجتمعات، وذلك وفقاً لما ينظمه القانون والدستور والمؤسسات الاقتصادية والمالية الرسمية”.
وأضاف فضيلته أن من مظاهر التيسير والمرونة في التشريع الإسلامي في باب المعاملات أن الشرع الشريف قد جوز بعض العقود والمعاملات على خلاف الأصل كالشفعة وإن كان فيها تقييد لإرادة المالك وقهر له لدفع الضرر المتوقع عن الجار أو الشريك، فالأصل في أمور البيع والشراء أن كل أحد له أن يبيع لمن شاء، وأن يملك لمن شاء، ولا يسأل أحد فيما يملِك، لكن الشرع الشريف أثبت حقًّا لأحد الجارين عند بيع الآخر نصيبه.
ولفت إلى أن الشرع الشريف أجاز كذلك بيع السلم وهو بيع موصوف في الذمة أو ما يعرف الآن بالشراء طبق الشروط والمواصفات والأحكام المنصوص عليها في القانون المعلن عنها في منصات بيع الأون لاين وغير ذلك من المعاملات دفعًا للحرج عن الناس، وترجيحًا لما يحقق مصالحهم ويرفع المشقة عنهم.
أما عن النقطة الثانية من القواعد التي تحكم قضايا المعاملات في الشريعة الإسلامية فأنها ليست بالأمور النصية، أي المنصوص عليها، بل جعل الشَّارع لها مبادئ عامَّة تحكمها وتنظمها؛ تتوافق مع اختلاف الأزمنة والأمكنة. وبالتالي فنحن لسنا متعبَّدين بصورة البيع والشراء إلى غير ذلك من المعاملات التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا المنصوص عليها في كتب الفقهاء، والضابط في ذلك كله إياحة ما فيه مراعاة المصلحة والمحافظة على النظام العام واحترام القانون والدستور، ومنع ما هو بضد ذلك.
وضرب فضيلته مثالاً على ذلك بمنع وتحريم ما يحدث في بعض المعاملات المالية غير القانونية كمعاملات توظيف الأموال العشوائية التي تتم خارج النظام الرسمي وخارج الأوعية التي حددتها الدولة للاستثمار والادخار، وهذه المعاملات قد يظنُّ البعض أنها في ظاهرها معاملة صحيحة شرعًا، لكنها على العكس من ذلك فهي في الحقيقة مليئة بالجهالة والظلم والغش والتدليس والغرر وإهدار المال بل وأكل أموال الناس بالباطل الذي نهينا عنه، وبالإضافة لذلك هي خارجة عن الإطار القانوني الذي يحمي المعاملات المالية من أن يحدث فيها أي نوع من من التلاعب بالأموال. فتوظيف الأموال خارج الأطر الرسمية معاملة مليئة بالمخاطر، لأن ما يحكم ويضبط صحة المعاملات الشرعية غير موجود فيها، وبالتالي فإنها لا تراعي مقاصد الشريعة الإسلامية، وهو ما رأيناه بصورة متكررة منذ فترة قريبة.
وأكد مفتي الجمهورية أنَّ المعاملات الخارجة عن الإطار الذي حددته الدولة هي من المعاملات المحرمة، لعدم الإحاطة بها ومعرفتها تمام المعرفة، ولعدم توافر سبل الأمان في توثيق تلك العقود، بما يعد إهدارًا للمال وقد نهانا الله عز وجل عن ذلك.
واختتم فضيلته كلمته بقوله: “إذن فالأصل في العقود والشُّروط الصحة والإباحة إذا تحقق ما ذكرناه، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول كما يقول العلماءُ هو القول الصحيح لأن الحرام هو ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، فالأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم”.