بينَّا في إيجاز أن كتابة السيرة النبوية الكريمة قد بدأت منذ عهد الصحابة الكرام، وأنه نشأ بعدهم جيل من التابعين كانت لهم كتب في السيرة النبوية، كعروة بن الزبير (ت 93هـ)، وأبان بن عثمان بن عفان (ت 105هـ)، والشعبي (ت 103هـ)، وشرحبيل بن سعد (ت 123هـ).
ثم جاء بعد هذين الجيلين جيل ثالث صنف في السيرة أيضًا، هم عاصم بن عمر بن قتادة (ت 120هـ)، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت 124هـ)، وعبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصارى (ت 135هـ).
وقد أدرك هذا الجيل بعض الصحابة الكرام، وتلقى العلم عن الجيل السابق في تدوين السيرة، واطلع على كتبهم، فكان هذا سببًا في تطور التصنيف في السيرة في هذا الجيل، ويظهر هذا مثلا في أن عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قد أعد قائمة بغزوات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبة زمنيًّا بالسنوات، وليس هذا معناه أن من قبله لم يدرك هذا الترتيب، وإنما معناه أنه استوثق علميًّا من هذا الترتيب، وذلك من خلال دراسته للسيرة النبوية واطلاعه على ما وُضع فيها قبله، فأخذ عنه هذه القائمة العلمية الموثقة المصنفون في السيرة والتاريخ الإسلامي من بعده.
وكنا قد أشرنا إلى أن هذه الطبقة الأخيرة من العلماء هم أشياخ محمد بن إسحاق صاحب السيرة المشهورة، فقد جاء إذن محمد بن إسحاق بعد ثلاث طبقات من المصنفين في السيرة النبوية فوجد الجو العلمي مهيَّأً سواء من جهة الشيوخ أو المراجع، فلم تكن إذن السيرة التي دونها ابن إسحاق هي أول ما كُتب كما يزعم البعض لمجرد التشكيك في السيرة، ولم تكن السيرة تنقل شفاهة من جيل إلى جيل تزيد وتنقص تأثرًا بما يعرض للبشر من سهو أو خطأ.
وسوف نذكر هنا بعض الحقائق عن منهج ابن إسحاق في التصنيف، وما سوف نذكره هنا سبق إلى درسه بعناية كبيرة المستشرق الألماني الأستاذ يوسف هوروفتس في كتابه القيم «المغازي الأولى ومؤلفوها»، الذي ترجمه أستاذنا الأستاذ الدكتور حسين نصار رحمه الله تعالى.
نقول: بعد أن جد ابن إسحاق الأحداث موثقةً في كتب مشايخه بدأ في الأخذ عن غيرهم، فسافر إلى مصر وهناك حدَّثَه يزيد بن أبي حبيب بوثيقة عن السفارات التي أرسلها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمراء المختلفين، فأرسل هذه الوثيقة إلى شيخه الزهري ليتحقق من صحتها.
ثم إنه بدأ مرحلة جديدة من التوثيق للسيرة النبوية، حيث بدأ بأخذ أقوال مَن أدركهم من أبناء وأقارب الصحابة والصحابيات الذين اشتركوا في حوادث السيرة النبوية، ولم يقتصر جهد ابن إسحاق على هذا فقط، بل إنه كان يرجع إلى علماء غير المسلمين حين كان يريد أخبارًا عن الحوادث اليهودية والمسيحية والفارسية، وكان يذكر بين رواته بعض أهل العلم من أهل الكتاب الأول أو أهل التوراة، وكان هذا يفيد في إدراك ما عندهم من رؤية للأحداث تزيد رؤيته وضوحًا وشمولًا.
وقد وقف ابن إسحاق بنفسه على بعض الرسائل والوثائق التي كتبها سيدنا رسول الله للقبائل المختلفة، فكان يثبتها في كتابه، ويقول في هذه الرسائل: وكتب لهم كتابًا وهو عندهم. ومثل هذه الرسائل التي رآها بنفسه ونقلها في كتابه يذكرها بدون سند، ولم يترك السند في سائر السيرة كما يدعي البعض.
وكان من هذه الوثائق التي وقف عليها كتاب سيدنا رسول الله الذي أرسل به عمرو بن حزم رضي الله عنه إلى اليمن واليًا على نجران، وقد ظل هذا الكتاب مع الصحابي الكريم، وانتقل من بعده إلى أبنائه وأحفاده، حتى وصل إلى حفيده عبد الله بن أبي بكر شيخ محمد ابن إسحاق، الذي أطلع ابن إسحاق عليه.
ونكمل إن شاء الله تعالى في المقال التالي الحديث عن منهج ابن إسحاق في السيرة.