شتان بين الزهد الحقيقي الذي يعني السعي والعمل والجد في عمارة الكون والأخذ بأسباب الحياة مع طمأنينة القلب ورضاه بما قسم الله (عز وجل) ، وبين تصنع الزهد وادعائه على خلاف الحقيقة والواقع .
فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ (رضي الله عنه) ، قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلٌ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي الله وَأَحَبَّنِي النَّاسُ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : ” ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ الله ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبّوكَ ” ، (أخرجه ابن ماجه والحاكم) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (رضي الله عنهما) ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ” قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ ، وَرُزِقَ كَفَافًا ، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ ” ، (أخرجه مسلم والترمذي) .
وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ (رَضِيَ الله عَنْهُمَا) قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم) بِمَنْكِبِي ، فَقَالَ: ” كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ” ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ (رضي الله عنهما) يَقُولُ : ” إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ “، (أخرجه البخاري) .
وعن عَبْد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قَالَ : ” نَامَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم) عَلَى حَصِيرٍ ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً ؟ فَقَالَ : مَا لِي وَلِلدُّنْيَا ، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ” ، (أخرجه الترمذي) .
فالزهد أمر قلبيّ وليس أمرًا شكليًّا ، وهو لا يعني أبدًا الانعزال عن الحياة ، ولا ترك الأخذ بالأسباب والتقاعس عن عمارة الكون وصناعة الحياة ، غير أن بعض الناس قد يفهمون الزهد على غير وجهه الحقيقي ، حيث يرتبط الزهد في أذهان بعضهم بجوانب شكلية لا علاقة لها بحقيقته , فيتوهمون خطأً أن الزهد رديف الفقر أو حتى الفقر المدقع , فالزاهد في تصور البعض شخص بالضرورة قليل المال , وربما قليل الحيلة , وربما رث الثياب أو مخرقها , صوته لا يكاد يبين , ويده لا تكاد تلامس مصافحها , ثم تطور الأمر إلى سلبية أشد بهجر العمل , وربما ترك الدراسة العلمية أو عدم الاكتراث بها , والخروج من الدنيا بالكلية إلى عالم أقرب ما يكون إلى الخيالات الخاطئـة منه إلى دنيا الـواقـع , في تعطيـل مقيت وغريب وعجيب وشاذ للأسباب , مع أن ذلك كله شيء والزهد شيء آخر .
وقد قال أهل العلم : ليس الزاهد من لا مال عنده ، إنما الزاهد من لم تشغل الدنيا قلبه ولو ملك مثل ما ملك قارون , وسئل الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله تعالى) : أيكون الرجل زاهدًا وعنده ألف دينار ؟ قال : نعم , إذا كان لا يفرح إذا زادت ، ولا يحزن إذا نقصت , ولذا كان من دعاء الصالحين : اللهم اجعل الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا , وعن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) أن ناسًا من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) قالوا : يَا رَسُولَ الله ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ , يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي , وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ , وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ , قَالَ : “أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ الله لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ به , إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً , وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً ، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً ، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ “، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله : أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ، قَالَ : ” أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ ؟، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْر” ، (أخرجه مسلم) ، فلما سابقهم الأغنياء في التسبيح والتهليـل والتكبيـر ، وكلمـوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ذلك قال لهم (صلى الله عليه وسلم) : “ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ” ، ( أخرجه مسلم) .
ما أجمل الدينَ وَالدُنيـا إِذا اِجتَمَعـــا
وَأَقبَـحَ الكُفـرَ وَالإِفــلاسَ بالرَّجُـل
ولا شك أن النظرة الخاطئة للزهد جرَّت إلى السلبية والاتكالية والبطالة والكسل والتواكل والتخلف عن ركب الأمم , مع أن ديننا هو دين العمل والإنتاج والإتقان والأخذ بالأسباب , يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا” (أخرجه ابن ماجه) , فهي تغدو وتروح ضربًا في الأرض وأخذًا بالأسباب.
وقـد جمـع القـرآن الكـريم بين من يضـربون في الأرض أخــذًا بالأسـباب ومن يجاهدون في سبيله سبحانه , فقال (عز وجل) : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا الله قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(المزمل : 20) , ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ ” ، (متفق عليه) , ولما رأى أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) رجلاً قويًّا جلدًا , ورأوا من جلده ونشاطه ما أعجبهم , فقالوا : يَا رَسُولَ الله , لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ الله !، فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : ” إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَفِي سَبِيلِ الله ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيعِفَّهَا فَفِي سَبِيلِ الله ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْـعَى عَلَى أَهْلِـهِ فَفِي سَبِيــلِ الله ، وَإِنْ كَانَ خَـرَجَ يَسْعَـى تَفَــاخُــرًا وَتَكَاثُرًا فَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ” (المعجم الصغير للطبراني) .
فالإسلام قائم على التوازن بين حاجة الروح وحاجة الجسد , حيث يقول الحق سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ( الجمعة : 9 ، 10) , وَكَانَ سيدنا عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ (رضي الله عنه) إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجـِدِ , فَقَــالَ : ” اللهــــمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْـوَتَـكَ ، وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَـكَ ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتِنِي ، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ” .
فالزهد الصحيح ليس قرينًا للفقر ، بل قد يكون قرين الغنى ، ليملك الإنسان ثم يزهد , فهو زهد الغني ، وليس زهد المعدم ، كما أن الزهد لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب ، فالأخذ بالأسباب شيء والزهد شيء آخر ، يتكاملان ولا يتناقضان ، وعندما قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : ” لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ” ، قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ الله ، إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً , فقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : ” إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ” ، (أخرجه مسلم) .