تحقيق: منى الصاوى- سمر هشام
“التديّن المغشوش” قد يكون أنكى بالأمم من “الإلحاد الصارخ”، هكذا وصف الإمام محمد الغزالي، المغالاة في إظهار التديّن دون النظر إلى الورع الداخلي.
ويستغل الكثيرون شهر رمضان للاستعراض بمظاهر التديّن، مثل الذي يترك عمله ويُعطّل مصالح الناس بغية أداء الصلاة، وأخرى ترتدي الحجاب في الشهر الفضيل وتصرُّ على التبرّج الأشهر الأخرى، أو كالذي يُعرِّض حياته والآخرين للخطر لإمساكه بالمصحف وقراءة القرآن أثناء القيادة بغية ختمة الثلاثين جزءًا بانتهاء الشهر الكريم.
كل هؤلاء فرّغوا الدين من مضمونه، وحصروه في أفعال ظاهرية ليظهروا كأشخاص محترمين ويكتسبوا ثقة من حولهم، فيلجؤون إلى ارتداء الملابس التي توحي بالتدين، والتوجه إلى أداء الشعائر الدينية، دون الاكتراث إلى تطبيق روح وجوهر الدين.
وعلى الرغم من انتشار تلك المظاهر إلا أن المجتمع امتلأ بالفساد والانتهاكات الجنسية والسرقات والرشاوى، التي كثيرًا ما تتغطى بغطاء الدين!
يحيل خبراء أسباب تلك الظاهرة بأنها «الورع الظاهري» الذي يعتمد على المظاهر الخارجية دون النظر لجوهر الدين أو الخشوع به، إذ يظهر هؤلاء بأداء الواجبات الدينية رغم تناقض أفعاله مع أصل الدين الإسلامي الحنيف، الذي أمرنا بالتحلي بالأخلاق الحميدة.
أكد أحمد عبدالرحمن- معاش- أن التدين الشكلى انتشر بشكل مبالغ فيه بسبب محاولة بعض الناس إظهار تدينهم على عكس الحقيقة وهذا خداع لأنفسهم أولا وليس للناس لأن ما يفعلونه هو محاولة اظهار عبادتهم رياء الناس ولا تكون عبادتهم خالصة لله، فهناك الكثير ممن يعمل ابتغاء مرضاة الناس وليس ابتغاء مرضاة الله! فسيكون أمام الناس له الفضل في الدنيا، ويكون فى الآخرة فى الدرك الاسفل من النار! وتكون أعمالهم عليهم حسرات، فإنما الأعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى، ويعتبر هولاء الأشخاص من الذين قال القرآن عنهم “أولئك هم الخاسرون”.
الشكل والمضمون
وتقول سميحة محمد- موظفة-: يجب على الفرد أن يتمسّك بدينه مظهرًا وجوهرًا، شكلًا ومضمونًا، وأن يكون اهتمامه بالجوهر والمضمون أكثر من الاهتمام بالعرض والشكل، فالنبى حذرنا من هذا التدين الأجوف البعيد عن تعاليم الشرع، مؤكدة أن التدين الحقيقي ليس رسومًا ولا أشكالًا ولا طقوسًا مظهرية وإنما هو في الحقيقة علاقة إيمانية روحية قلبية، تربط بين الإنسان وربه الذي لا ينظر إلى صورنا وأشكالنا ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فقال النبى: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) .
ترسيخ الدين
ويقول سمير رمضان- موظف-: يجب القضاء على هذا التدين الشكلي ولابد من ترسيخ قيم الدين في نفوس أفراد المجتمع، بالاهتمام بتربية النشء والأطفال تربية إيمانية صحيحة كاملة، فأطفال اليوم هم رجال الغد، ولابد من إتاحة الفرصة كاملة للعلماء والدعاة في جميع وسائل الإعلام ليعلّموا الناس أمور دينهم، ويحذّرونهم من التدين الشكلي ومظاهره ،وتطوير المناهج التعليمية في المدارس والمعاهد والجامعات، ليكون اهتمامها بالأخلاق وجوهر التدين أكثر من العرض والشكليات.
أهداف دنيئة
أرجعت د. سارة عثمان، أستاذة علم النفس، تلك المظاهر إلى المحاولات في كسب الاحترام، وتوظيف الآيات القرآنية لخدمة أهداف دنيئة. فالمجتمعات العربية بها تناقضات عدة، فتجد صفحة أحدهم على الفيس بوك الشخصية مكتظة بالأدعية والآيات القرآنية بينما يتحرّش بطفلة لا يتعدى عمرها العشرة سنوات، كما تابعنا قضية طفلة المعادي والتي على إثرها عوقب المتهم بالسجن 10 سنوات!
ونرى نماذج كثيرة لأشخاص يؤدون الفروض الدينية، لكنهم يقبلون الرشوة، وقد يختلس بعضهم مبالغ مالية من مكان عمله لكنه لم ير في ذلك إثمًا بل يغلِّف ذلك بغطاء شرعي.
أوضحت أن لدى البعض اعتقادا بأن تدينهم أو مزاعمهم بفهم الدين يتيح لهم تفسير الآيات وفقًا لمصلحتهم الشخصية، إذ يكيّفون النص الديني بما يتلاءم مع احتياجاتهم. وما أكثر هذه المظاهر خاصة في شهر رمضان المبارك، وهكذا يشعر البعض بأن غطاء الدين يمكّنه من المرونة في التعامل من النصوص المقدسة، بينما يلتزم فقط بشعائر ديانته الظاهرية!
وأكدت أن الإيمان يسكن القلب والروح، ومن يبالغ في إظهار تدينه تحوم الشبهات حوله. واستشهدت بمقولة ستيفن جروس المحلل النفسي الشهير، “كلما بالغنا في إظهار شئ، عظم شأن ما نخفيه!”.
تديّن مصلحى!
ومن جانبه، رجّح د. إسلام مصطفى، أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر، أسباب انتشار مظاهر التدين الظاهري إلى محاولة هؤلاء لكسب ثقة من حولهم، والبحث عن مكانة اجتماعية بصورة معينة لخدمة مصالح شخصية في أغلب الأحايين.
فالمظاهر باتت تتحكّم في سلوك الناس، لكنهم لا يلامسون الإيمان الداخلي الذي يظهر في التصرفات والمعاملات الحياتية والإنسانية.
أوضح، أن مظاهر التدين تعتبر الملاذ الآمن للبعض للظهور بصورة أكثر مثالية في ظل اختلال القيم الأخلاقية والروحية في المجتمعات العربية. البعض يطلق مصطلح «التدين الموسمي»، الذي ينتشر ويتكاثر في رمضان وعيد الأضحى على وجه الخصوص، الأمر الذي يفرّغ الديانات من مضمونها الجليل ويفقدها الديمومة التي تنادي بها.
واستدل د. إسلام، بقول الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}. وقال تعالى في سورة التوبة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
وأكد أن أساس التدين هو الإخلاص لوجه الله الكريم، مستدلًا بقوله تعالى {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقوله ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾.
ظواهر عجيبة
أوضح د. مسعد الشايب- دكتوراه في علوم القرآن- أن من الظواهر العجيبة التي لا تناسب شهر رمضان ولا مكانته ما يسمي ويعرف بالتدين الشكلي أو المظهري، وهو الابتعاد عن جوهر الدين ومقاصده والتمسك بأمور شكلية عرضية صغيرة وحسب ـ توافق الهوى والمزاج، محذرا من أن الانقطاع عن الأعمال بحجة التفرّغ لصيام رمضان، فهذا مخالفٌ لهدي نبينا الذي فتح مكة في رمضان، وانتصر في غزوة بدر، ولم يترك واجبًا من الواجبات بحجة التفرغ للصيام.
وينتقد د. الشايب، مظهر الإمساك الشكلي في الصيام بالامتناع عن الطعام والشراب، وشهوة الفرج، وإطلاق العنان لبقية الجوارح، وأداء العبادات بدون مراعاة لمقاصدها، مستشهدا بقول النبى: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ (السفاهة مع الناس)، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)، وقال: (رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ) .
مُخادعون!
ومن جانبه أوضح د. سعد عبدالدايم الأزهرى- إمام وخطيب بالأوقاف- إن مسألة التدين الشكلي استفحلت بين بعض أفراد الامة، فخرج إلينا بعض ممن لا يعرفون عن الدين إلا الظاهر فقط واكتظ بهم واقعنا المعاصر وانتشروا بين الناس، متناسين أن الله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى صورهم ولا إلى أجسامهم وإنما ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم. هم يخدعون الناس بمظهرهم الخارجي مردّدين شعارات الإيمان، والله ورسوله من أفعالهم براء، نتج عن ذلك أن فقد البعض الثقة فيهم حين انخدعوا في مظهرهم وشعاراتهم ولم يعرفوهم حق المعرفة، ولقد لقي رجل عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- فقال له: إنّ فلانًا رجل صدق، قال: سافرت معه؟ قال لا، قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال: لا، قال: فهل ائتمنته على شئ؟ قال: لا، قال: فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد. هذه المواطن هي التي يظهر فيها معادن الناس ممن اتفق ظاهرهم مع باطنهم.
أشار د. سعد لأهمية الجمع والمطابقة بين الشكل والمضمون بين الظاهر والباطن، فنجد أن العبادات جاءت لتقوِّم سلوك الفرد في المجتمع، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والصوم يعلّمنا الصبر والإمساك بزمام النفس فإن شاتمك أحد أو سبَّك فلتقل إني صائم، والزكاة تطهّر وتزكّي، والحج لا رفث فيه ولا فسوق ولا جدا ، فإذا لم نجد هذا الأثر الناتج عن العبادات في سلوك الفرد مع المجتمع فلاشك أن هذه العبادات فيها خلل، لان العبادات والمعاملات قرناء قالوا: يا رسول الله فلانة تصوم النهار وتقوم الليل ولكنها تؤذي جيرانها! قال: “هي في النار”. فالعبادات حسن التعامل مع الخالق والمعاملات حسن التعامل مع المخلوق.
أضاف د. سعد: من أعظم هذه العبادات صيام شهر رمضان ولكن نجد من يأتي عليه شهر رمضان ويكون صائما ممتنعا عن الطعام والشراب ولكنه لا يكف عن الكذب والغيبة والنميمة والغش وغير ذلك من مساوئ الأخلاق، إذ الصيام يجب أن يربّي في المسلم يقظة الضمير. ويجب أن يحقق في المسلم حقيقة مراقبة الله والإحسان وأن يشعر الغني بحال الفقراء، بحيث يدفعه إلي البذل والعطاء والسخاء والكرم. الصيام يربّي حسن التعامل مع خلق الله فرُّب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.
ولذلك نجد أن الصوم على ثلاث درجات: صوم العوام، وصوم الخواص، وصوم خواص الخواص. وأما صوم العوام: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وأما صوم الخواص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خواص الخواص: فصوم القلب عن الأمور الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله واليوم الآخر وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين، فإن ذلك من زاد الآخرة وليس من الدنيا.
ويرى د. سعد أننا لو نظرنا في واقعنا المعاصر نجد أن المسلمين في استقبالهم لشهر رمضان المبارك على نوعين، نوع يستقبله بجسده ظاهرياً! ونوع يستقبله بروحه باطنيا.
النوع الأول: _ولا مانع من وجوده_ وأصحابه يستعدون بالزينة والفوانيس لكن لا ينبغي أن يكون هو الأساس بل ينبغي أن يطوّر الإنسان فيه نيّته ويجعله من قبيل إظهار السرور والفرح بقدوم رمضان.
أما النوع الثاني: وهو الاستعداد الروحي فصاحبه يتهيّأ لرمضان من أول شهر رجب حين يقول: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلّغنا رمضان. ولا نبالغ إذ أقول إنه يتهيأ لرمضان من قبله بستة أشهر كحال أصحاب النبي فقد كان عامهم كله رمضان يستقبلونه في ستة أشهر ويودعونه في ستة أشهر، وصاحب هذا المنهج يجد أثر رمضان بعد رمضان فيستمر على صلته بربّه ولا ينقطع عن العبادة بعد رمضان فبئس القوم قوم لا يعرفون ربّهم إلا في رمضان حتى وإن قلّ في عبادته عن ما كان عليه في هذا الشهر الكريم فهذا أمر طبيعي فلقد كان النبى جوّادا ولكن كان أجود ما يكون في رمضان وكان عمله ديمة اي يداوم عليه. فان أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ.
دراسة الغزالى
وكان الشيخ محمد الغزالي قد أكد في دراسة له بعنوان “التدين المغشوش”، أن العبادات التي شرعها الله من المفترض أن تزكّي السرائر، وتجنّبها كافة العلل الظاهرة منها والباطنة، وتعصم السلوك الإنساني عن الانحراف والاعوجاج والجور.
وأشار الغزالي في دراسته إلى أن الإيمان يكتمل حال تجاوز العابدين صور الطاعات الشكلية وسجدت ضمائرهم وبصائرهم وجوارحهم طواعية لله، مؤكدًا أنه “إذا لبثت العبادات عند السطحية الظاهرة والقشور المزوّرة فإنها لا ترفع خسيسة ولا تشفي سقامًا”.
صناعة الخوارج!
وفي سياق متصل، قال د. أسامة فهمي، أستاذ التاريخ الإسلامي، إن خطورة التدين الظاهري قد تصل إلى القتل والسفك والعنف، لافتًا إلى أن الخوارج هم أوائل الناس الذين اتخذوا من الدين ظاهرة وفرّغوا الإيمان من مضمونة، فعجزوا عن تهذيب النفس والارتقاء بها، وساروا خلف أهوائهم، إلى أن قال رسول الله عنهم: “يمرقون من الدين”.
أضاف: ارتبط في أذهان الناس شكل معين للتدين، يتمثل في اللحية والجلباب والسواك وما إلى ذلك من مظاهر، بينما يستغل البعض تلك المظاهر لخداعهم وتضليلهم والسيطرة على عقولهم كما كانت تعمل الجماعة الإرهابية للسيطرة على عقول المصريين.
وأكد أن الإيمان يحاكي القلوب والجوارح، وأننا بحاجة إلى منصة إعلامية تكون تحت إشراف الأزهر تتولى تصحيح المفاهيم المغلوطة وإحياء قلوب المسلمين مرة أخرى، مستدلًا بقول رسول الله، “وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ”.