حملات توعوية بـ”الأقطاب”.. والاحتفاظ بحق الردع القانونى
المفتى: أولياء الله عُمّار البلاد.. لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
القصبى: العفو مشربنا.. والتصحيح منهجنا
الشريف: “يد واحدة” فى تصويب المخطئين.. وتبصير الجاهلين
الجازولى: بناء جسور التفاهم والتعاون بين الثقافات المختلفة
مصطفى ياسين
انتفض المجلس الأعلى للطرق الصوفية، غيرة على رموز أقطاب الصوفية ورجالها المخلصين الأوفياء، فأجمغ أعضاؤه على رفضهم واستنكارهم لحملات التشويه المتعمد والتطاول والإساءة التى تطلق من هنا وهناك، والتى تتجدد مع الاحتفال بذكرى مولدهم، كما حدث مؤخرا مع الاحتفال بـ”رجبية البدوى” أو الدسوقى وغيرهما، فأصدر أعضاء “الأعلى للصوفية” بيانا جماعياً شديد اللهجة، مفندا وداحضا للافتراءات والأكاذيب التي يتم ترويجها، مؤكدين احتفاظهم بحق الردع القانونى، وفى ذات الوقت انطلاق حملات توعوية للتعريف بالصوفية وأقطابها ورجالاتها ودورهم الدينى والوطنى.
كما اشاد “الأعلى للصوفية” بالجهود الكبيرة التي قام بها السيد د. عبدالهادي القصبي، شيخ المشايخ، في تطوير مشيخة الطرق الصوفية منذ توليه أمانة هذا المنصب، مشيرين إلى أن المشيخة شهدت في عهده صحوة إصلاحية في المجال الاداري وإعادة هيكلة الجهاز الإداري للمشيخة، مؤكدين أن المجلس الأعلى والمشيخة العامة لا يرضيان بأي نوع من أنواع الفساد داخل الطرق الصوفية وأنهما سيحاسبان بمنتهى الحسم كل من يثبت ضده تهم بالفساد، وأن يدهم ممدودة للجميع، مرحبين بكل صاحب فكر غيور على التصوف الذي يعد صمام أمان المجتمع المصري.
متابعة ومحاسبة
من جانبه أكد سماحة د. عبدالهادي القصبى، شيخ مشايخ الطرق الصوفية، أن المجلس الأعلى للصوفية تابع خلال الأيام الماضية، الحملة الجاهلة التي تشنها بعض التيارات على الإمام الولي العارف بالله سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه وأرضاه ونفعنا به وبعلومه في الدارين، جهلًا منهم بمقامه وعلمه الشريف، مشيراً إلى أن حياة السيد البدوى خلصت لله، فلقد كان يصوم نهاره، وإذا جاء الليل قامه في قراءة القرآن والذكر، وكان منصرفًا بكيانه كله إلى الهداية في الله، مكرسًا حياته للجهاد في سبيل الله، وهو ما حاول البعض أن يعطيها ألوانًا ومعان لا تتناسب مع الحقيقة، يحاولون بذلك أن ينزلوا بالقمم الشامخة إلى سهول الوديان، شعورًا منهم بالحقد على كل قمة وما يزيد ذلك سيدي أحمد البدوي إلا رفعة وترقيًا عند ربه الذي قال: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
أضاف “د. القصبى”: ونحن إذ نؤكد أن المجلس الأعلى للطرق الصوفية يحتفظ بحقه في الردع لكل من أساء إلى الولي الصالح سيدي أحمد البدوي، وأنه سيتخذ كافة الإجراءات القانونية تجاه المسيئين، كما سيقوم المجلس كذلك بحملة توعوية وتعريفية بالتصوف وأئمته وأقطاب الطريق.
وأكد “د. القصبى” أن المجلس الأعلى للصوفية ،وكذلك جميع المشايخ والعلماء وأهل التصوف طرا، أجمعوا على الرفض التام لتلك الأساليب السوقية والألفاظ النابية والصياغات المرفوضة التي يستعملها بعض المهاجمين لمشيخة الطرق الصوفية وللتصوف عمومًا، وذلك تأسيًا بخُلق سيدنا رسول الله فيما روي عن أبي عبدالله الجَدَلِي قال: سئلتُ السيدة عائشة رضي الله عنها، عن خُلُق رسول الله فقالت: «لم يكن فاحِشًا ولا مُتَفَحِّشًا ولا صَخَّابًا في الأسواق، ولا يَجْزي بالسيئةِ السيئةَ، ولكن يَعْفو ويَصْفَح».
أشار د. القصبى إلى أن المشيخة الصوفية قد شهدت بالفعل نهضة علمية تمثلت في تنظيم مجموعة من الدورات العلمية المتخصصة والدروس اليومية التي تقدمها المشيخة لأبناء الطرق الصوفية على يد نخبة من كبار علماء الأزهر، وطباعة عدة مخطوطات علمية تطبع لأول مرة مما أسهم بشكل كبير في ضبط اتجاه التصوف في مصر- بل العالم أجمع- وإلمام المريدين بعلوم الشريعة والحقيقة لتكتمل دائرة السلوك لديهم. كما نظمت المشيخة مؤتمرًا دوليًا تحت عنوان “التصوف الإسلامي نحو قيم محمدية كاملة”، فضلًا عن الندوات واللقاءات العامة.
تابع “د. القصبى”: ونحن إذ نؤكد مرارًا وتكرارًا أن قبول الطرق الجديدة وتسجيلها في المشيخة يخضع لقواعد علمية وأسس قانونية نظمها قانون 118 لسنة 1976، ولا يمكن التغاضي عنها أو التفريط فيها، حيث يُدرس كل طلب دراسة متأنية من خلال اللجان العلمية واللجان القانونية حتى يظل طريق التصوف في مصر نقيًا من الدخلاء.
السيرة المشرفة
واستنكر فضيلة د. شوقي علام، مفتى الجمهورية، تلك الهجمة، مستعرضاً سيرة سيدي أحمد البدوي، بقوله: هو السيد الشريف الحسيبُ النسيب، فرع الشجرة النبوية، وسليلُ البَضعة المصطفوية، أبو العباس شهاب الدين أحمد البدوي الحُسيني رضي الله عنه وأرضاه، المولود في فاس بالمغرب عام [596هـ]، والمتوفى في طنطا بمصر عام [675هـ]، المتصف بالصفات القويمة، والملقب بالألقاب الكريمة؛ كشيخ العرب، وأبي الفتيان، والمُلثَّم، والسطوحي، والسيد، وهو اللقب الملازم لاسمه الشريف، والذي صار في عرف أهل مصر عَلمًا عليه؛ بحيث ينصرف عند الإطلاق إليه، وهو ممَّن تربَّع على عرش الولاية الربانية، والوراثة المحمدية، وشهرته تغني عن تعريفه، وبركة سيرته تكفي في توصيفه، فهو قطب أقطاب الأولياء، وسلطان العارفين الأصفياء، وركن أقطاب الولاية لدى السادة الصوفية، وإليه تنسب الطريقة الأحمدية البدوية.
والسيد البدوي رضي الله عنه هو من الأولياء الذين كتب الله لهم القبول في الأرض عند العامة والخاصة، واتفق على إمامتِه الأكابرُ والأصاغر، وترجمه بذلك المؤرخون، والعلماء والحفاظ والفقهاء في كل القرون، ولم يختلف أحدٌ في فضله، ولا نازع عالمٌ في شرفه ونُبْلِه؛ بحيث إنَّ الناظر في سيرته عند أهل العلم لا يجد عالمًا ولا مؤرخًا إلّا ذكرَه بالسيادة، وكريم الإشادة، ولا يطالع إلّا مدْحَ شجاعتِه، ووصْفَ نجدته وفتوَّتِه، والثناءَ على كرمه وسماحتِه، والدعاءَ بنيل بركتِه والانتفاع بزيارته ومحبتِه.
والسيد البدوي رضي الله عنه من الأولياء الذين عمّر الله بهم البلاد، وزكّى بهم العباد، فمنذ حلَّ في طنطا -عام 634 من الهجرة النبوية الشريفة- بدأت تعمر محلتها، وتزداد شهرتها، وتكثر أبنيتها، وتتسع عمارتها، وأصبح يقصدها القُصَّاد، ويرتادها الرواد، ويأتيها الزوار والعُبّاد؛ فازدهرت عمرانًا بشريًّا، ومركزًا تجاريًّا، ومزارًا إسلاميًّا يُقصَدُ للاحتفال بالمولد النبوي فيه من جميع الأنحاء، وتُشَدُّ له الرحال من سائر الأرجاء؛ وصار ذلك -كما يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني فيما نقله عنه الإمام الشعراني في “الطبقات الوسطى” بخطه-: [يومًا مشهودًا؛ يقصده الناس من النواحي البعيدة، وشهرة هذا المولد في عصرنا تغني عن وصفه] اهـ.
بركات مستمرة
أضاف المفتى: ومن بركات السيد البدوي على طنطا: أنها صارت بقدومه إليها بلدًا علميًّا سامقًا ومعهدًا قرآنيًّا باسقًا، وصار تدريس القرآن والعلم فيها عريقًا، وازدانت بالعلماء والقُرّاء بريقًا؛ فنشأت فيها حركة علمية، ومنظومة تعليمية، ومدرسة قرآنية، صار فيها الجامعُ الأحمديُّ شقيقَ الجامع الأزهر، وانتسب إليه فطاحل العلماء والأولياء، وتخرّج منه كبارُ الفقهاء وأعاظم القُرّاء الذين تربعوا على عرش القراءة القرآنية؛ بحيث اشتهر بين علماءِ مصرَ قولُهم: “العلم أزهريٌّ، والقرآنُ أحمديٌّ”، وهي مقولة يأثرها القراء وعلماء القراءات عن شيخ المقارئ المصرية وإمام أهل القراءة في عصره ومصره العلامة شمس الدين محمد المتولي الكبير [ت: 1313هـ].
وبلغ ممَّا وضعه الله لوليه السيد أحمد البدوي رضي الله عنه من القبول عند الخاصة والعامة: أن سمَّى العلماءُ أولادَهم العلماءَ باسمه ولقبه معًا “السيد البدوي” تيمنًا وتبركًا؛ حتى كثر ذلك في الناس: كالشيخ العلامة محمدَا بن أبي أحمد الأموي المجلسي الشنقيطي، وولده هو العلامة النسابة أحمد البدوي الشنقيطي المجلسي [ت: 1208هـ] صاحب نظم “عمود النسب”؛ حيث سمّاه ولقبه “بأحمد البدوي” تيمنًا باسم السيد البدوي ولقبه رضي الله عنه، كما ذكره صاحب “رياض السيرة والأدب، في إكمال شرح عمود النسب” (1/ 3، ط. دار الفتح).
وكإمام الجامع الأحمدي الشيخ إبراهيم بن إبراهيم الظواهريّ الشافعي [ت: 1325هـ]؛ فإنه سمى ولدَه “بمحمد الأحمدي” تيمنًا باسم السيد أحمد البدوي رضي الله عنه، وولدُه هو شيخ الإسلام الإمام الأكبر محمد الأحمدي الظواهري إمام الجامع الأزهر [ت: 1363هـ].
وهذا كله من علامات القبول التي وعد الله تعالى بها أولياءَه وأهلَ رضاه؛ كما قال الله جل في علاه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم: 96].
واجب ديني ووطنى
من جانبه أعلن السيد محمود الشريف، نقيب الأشراف، تكاتف نقابة السادة الأشراف مع مشيخة الطرق الصوفية فى مواجهة حملات الإساءة والتطاول التى يتعرض لها التصوف ورجاله وأولياء الله والصالحون، وهذا التعاون ليس بجديد خاصةً وأن مشايخ ومعظم منتسبى ومريدي الصوفية منتسبون لنقابة الأشراف، مشيراً إلى أن النقابة تولى مسألة نشر الوعى وتصحيح المفاهيم أولوية خاصة باعتبار ذلك واجباً دينياً ووطنيا وليس مجرد أداء عمل وفقط.
أوضح “الشريف” أن حملات التوعية والتعريف بسير آل البيت والأولياء والصالحين، مستمرة وغير محصورة في شكل محدد مثل عقد الندوات والمؤتمرات فحسب بل هى شاملة في كل جوانب الحياة العامة من لقاءات عامة وشخصية، ومحاضرات مباشرة أو غير مباشرة، وتطبيق عملى بالسلوك والتعامل اليومى مع الناس، خاصة قليلى المعرفة بالمنهج النبوى الشريف أو حتى المنتقدين والمتطاولين عن جهل أو سوء فهم، فنحن مأمورون بعدم رد السيئة بالسيئة، وإنما بالحسنى، ولين الجانب، والعفو والصفح، حتى يتبين لأولئك خطؤهم. أما المعاندون والمصرون على الضلال فأولئك لهم إجراءات قانونية لوقف أذاهم ودحض افتراءاتهم.
خبرة ومعرفة عميقة
ويؤكد السيد سالم الجازولى، شيخ الطريقة الجازولية، أن مشايخ الطرق الصوفية يمتلكون خبرة ومعرفة عميقة في الصوفية وتعاليمها، ولذلك يعدون مصادر موثوقة للمعلومات الصحيحة حول التصوف. وهم يقومون بتوجيه الناس وتوضيح الجوانب الروحية والتعاليم الأساسية للطرق الصوفية. قد يتولون مهام تعليمية وتدريبية للمبتدئين والمهتمين بالصوفية، ساعين لنشر الفهم الصحيح للتصوف وتعزيز التطبيقات العملية للقيم والأخلاق الصوفية في الحياة اليومية.
بالإضافة إلى ذلك، يلتزم مشايخ الطرق الصوفية بالدفاع عن التصوف ورموزه وممارساته ضد الانتقادات والهجمات السلبية. فهم يواجهون انتقادات أو افتراءات تستهدف تشويه صورة التصوف أو تشويه سمعتهم الشخصية. وبالتالي، يعملون على محاربة هذه الأفكار المغلوطة والأكاذيب من خلال العمل الجاد والتواصل الفعّال مع المجتمعات المحلية ووسائل الإعلام.
يستدرك “الجازولى”: من المهم أن نذكر أنه على الرغم من أن مشايخ الطرق الصوفية يلعبون دورًا مهمًا في تنظيم حملات التوعية ونشر الوعي المجتمعي بالصوفية، إلا أن الجهود المشتركة مع المؤسسات والهيئات الأخرى أمر ضروري. ويمكن للجهات الحكومية والمنظمات غير الحكومية والمراكز الثقافية أن تقدم الدعم المادي والتنظيمي والتعاون في تنفيذ الحملات والأنشطة التوعوية.
علاوة على ذلك، يمكن لمشايخ الصوفية أن يلعبوا دورًا مهمًا في بناء جسور التواصل والتفاهم بين الصوفيين والمجتمعات الأخرى. يعملون على تعزيز القيم المشتركة والتفاهم الثقافي من خلال التعاون والحوار مع أعضاء المجتمع وزعماء الديانات الأخرى. يسعون لتعزيز روح التسامح والتعايش السلمي بين الثقافات المختلفة.
باختصار، مشايخ الطرق الصوفية يلعبون دورًا حيويًا في تنظيم حملات التوعية بالصوفية ونشر الوعي المجتمعي بها. يعملون على محاربة الأفكار الخاطئة وتصحيح المفاهيم المغلوطة، ويأملون في التعاون مع مؤسسات وهيئات المجتمع لتعزيز هذه الجهود وتعميق فهم الصوفية وتعاليمها في المجتمع. كما يسعون للتواصل مع المجتمعات الأخرى وبناء جسور التفاهم والتعاون بين الثقافات المختلفة.
الحسنى والقانون
ويشير السيد طارق يس الرفاعي، شيخ الطريقة الرفاعية، إلى أن حملات التشويه والتطاول قديمة متجددة، فهى تبرز في مناسبات الاحتفال بموالد الأولياء والصالحين، عبر أبواق المتمسلفة والمتحزلقة وادعياء العلم الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويرددون كلمات واتهامات باطلة، سعياً وراء الشهرة وجذب الناس، وهو المصطلح الذي عرف حديثاً بـ”التريند”، وهذا النوع من الجهلاء نواجههم بتصحيح أفكارهم المغلوطة والمشوهة، من خلال حملات التوعية ونشر الحقائق العلمية والسير الذاتية لرجال التصوف، وتوضيح أدوارهم الدعوية والوطنية.
أما النوع الثاني فهم الذين يعتمدون الإساءة والتطاول والطعن والتشويه فى كل ما هو صوفى، وهذا الصنف لا يصلح معه النصح والإرشاد بالحسنى وإنما القصاص القانونى حتى يرتدعوا ويعودوا إلى الرشد والصواب، فالله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
الاشمئزاز والشفقة
يلتقط خيط الحديث السيد م. عبدالخالق الشبراوى، شيخ الطريقة الشبراوية، قائلاً: تخرج علينا من وقت لآخر بعض الأصوات المفتقدة للذوق والأدب والعلم والبصيرة متحدثة عن رموز وأولياء شهدت لهم الأمة وعلماؤها الثقات عبر التاريخ، وهو الأمر المثير للإشمئزاز والشفقة في ذات الوقت، وأؤكد أن مثل هذه المحاولات البائسة في الافتراء والهجوم على أولياء الله هي في حقيقة الأمر لا تنال سوى من مطلقيها.
ولعل ما تقوم به الطرق الصوفية المصرية- الأهم والأعرق في الأمة الإسلامية والعربية- والطريقة الشبراوية الخلوتية، على وجه الخصوص، من مجهودات وفاعليات على أرض الواقع للتعريف والتوعية بصحيح الدين، وقدر ومقدار علمائها وأولياء الله الصالحين، من خلال الحديث عنهم وعن سيرتهم ومسيرتهم وإسهاماتهم لرفعة الدين وتزكية الأنفس، سواء في دروس العلم أو في نقاشات مع المريدين وغيرهم من طلبة العلم، لهو من أوائل الأدوار التي نقوم بها، وكذلك ما نقوم به من رد على كل مدعي ومفتري وتفنيد ما يطرحه بطريقة علمية منهجية، مستندين للكتاب والسنة وما حوته كتب الفقهاء والعلماء من أسانيد تدحض ما يقدمه كل من تسول له نفسه للنيل من أتقياء أولياء مشهود لهم بالعلم والصلاح.
ولعل ما صدر من بيان رسمي عن المجلس الأعلى للطرق الصوفية، بشأن الهجوم على سيدي أحمد البدوي، والافتراء عليه ومحاولة النيل منه، جاء ليعكس موقف الطرق الصوفية المصرية، من مثل هذه الدعوات وهو في ذات الوقت يعكس مدى رقي الطرق الصوفية في تناول الأمور والتعاطي معها تحت مظلة القانون والدستور الذي يكفل لنا الدفاع عن رموز وأئمة وأولياء مصر، ضد كل من يسعى للتشكيك فيهم وفي مكانتهم، ونحن في الطريقة الشبراوية الخلوتية، نؤيد هذا البيان الواضح كما أننا بصدد تنظيم عدد من الندوات المتخصصة في مقرات الطريقة بمختلف المحافظات والتي سيقوم خلالها علماء من الأزهر الشريف بالحديث عن سيرة ومسيرة أولياء الله بصورة عامة والذين شرفت مصر بهم على وجه الخصوص، وستكون هذه الندوات متاحة لمريدين الطريقة ولكل من يرغب في معرفة الحقيقة وذلك من باب التذكير والتوعية بفضل علماء وأولياء لولا ما قاموا به وتحملوه لما كنا لنعرف صحيح ديننا وهم من ساروا على نهج ومنهج حضرة سيدنا محمد رسول اللهﷺ، وآل بيته الأطهار، وصحابته الأخيار، كما أننا بصدد التجهيز لعدد من المنشورات على صفحات التواصل الاجتماعي – في مواكبة لتطور العصر – للتعريف بمعنى وقيمة أولياء الله وما هو مأثور عنهم من علوم ومواقف تظهر وتشرح ما كانوا عليه من ذوق ووجدان وعلم شرعي يتوافق مع صحيح الدين وفقاً للكتاب والسنة.
الصوفية الحقة
من ناحية أخرى، تشير د. روحية مصطفى الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق كلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة، جامعة الأزهر، إلى أن الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، السيدة عائشة، وصفت أخلاق رسولنا الكريم فقالت: “كان خُلُقُه القُرآنَ” أحمد بإسناد صحيح، أي أن النبي تطبيق عملي للقرآن على وجه الأرض، فقال صل الله عليه وسلم: “إنَّ أحبَّكم إليَّ وأقربَكم منِّي في الآخرةِ محاسنُكم أخلاقًا” رجاله رجال الصحيح، وفي مجلس علم مهيب في حضرة رسولنا الكريم يدخل سيدنا جبريل، عليه السلام، ليُعلم الناس أمور دينهم في هيئة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يبدو عليه آثار السفر، فيُلقي تحية الإسلام، ثم يجلس بجوار النبي، ويسند ركبته إلى ركبة النبي، ويضع يده على فخذه وهذا مقام العارف برسول الله كأنه صاحب قريب أو أخ حبيب، وبدأ يطرح على النبي جملة أسئلة ويُجيبه معلم الناس الخير، من هذه الأسئلة: ما الإحسان؟ فقال النبي: “أنْ تعبدَ اللهَ كأنك تراهُ فإن لم تكنْ تراهُ فإنه يراكَ” (أخرجه مسلم)، فالإحسان منهج يسلكه العبد للوصول إلى معرفة الله تعالى والعلم به، أي أن هذه المرتبة غير مرتبة الإسلام والإيمان، بل هي مرتبة ثالثة في الدين تهتم بتهذيب الأخلاق وتربية النفس وطهارة الباطن من الرذائل، ومراقبة الله تعالى، والاجتهاد في العبادة، وقد أطلق أهل العلم على هذه المرتبة من الدين مسمى التصوف، وقد عرفه الشيخ زكريا الأنصاري شيخ الشافعية بقوله: “التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية” وقد نُسب إلى هذه المرتبة أكابر الصحابة أمثال الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم كما قال أبو نعيم في حلية الأولياء، ومن بعدهم كبار التابعين أمثال الحسن البصري، ورابعة العدوية، ثم أهل الفقه كالغزالي والنووي وابن تيمية، وأيضا شمس التبريزي وجلال الدين الرومي، والبدوي والدسوقي، والعز بن عبدالسلام، وعمر المختار، وعز الدين القسام وغيرهم من مشاهير وأعلام العالم الإسلامي، ولم يُنكر أحد من أهل العلم المعتبرين هذه المرتبة من الدين، وكما اهتم الفقه ببيان أحكام الشريعة، وعلم العقيدة ببيان الإيمان، فقد اهتم التصوف بتحقيق مقام الاستحسان، قال أحمد بن عجيبة: “مذهب الصوفية: أن العمل إذا كان حدّه الجوارح الظاهرة يُسمى مقام الإسلام، وإذا انتقل لتصفية البواطن بالرياضة والمجاهدة يُسمى مقام الإيمان، وإذا فتح على العبد بأسرار الحقيقة يُسمى مقام الإحسان” هذا هو التصوف السني الذي تقوم أصوله على كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم واجتهاد العلماء فيما لم يرد به نص، قال محمد الجنيد أحد أئمة الصوفية: “مذهبنا هذا مقيد بالأصول الكتاب والسنة” وقال إمامهم سهل بن عبدالله التستري: “مذهبنا مبني على ثلاثة أصول: الاقتداء بالنبي في الأخلاق والأفعال، والأكل من الحلال، وإخلاص النية في جميع الأعمال”.
إذن علم التصوف كعلم الفقه قائم على الاتباع ونبذ الابتداع، وهو علم له مذاهبه وأئمته وأتباعه وأركانه وأصوله التي يُبنى عليها، وقد أُطلق عليه علم الأخلاق، وعلم التذكية، وعلم السلوك، وعلم السالكين إلى الله، وأشهر أسمائه علم التصوف، وسُمي بهذا الاسم نسبة إلى الصوف الخشن حيث أنهم كانوا يؤثرون الزهد، وقيل نسبة إلى الصِّفة؛ لأن هذا المذهب يدعو إلى الصفات الحميدة وترك القبيح من الصفات، وقيل سُمي بذلك نسبة إلى الصُفَّة لأن صاحبه تابع لأهل الصفة وهم مجموعة من الفقراء والمساكين كانوا يُقيمون في مسجد رسول الله، وكان ينفق عليهم من مال الزكاة. وقيل سميت الصوفية من الصفاء والنقاء وطهارة الباطن، قال الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله: “أنّ الصوفيّة منْ أصل صافى وصوفِيَ إليه: أي بادله الإخاء والمودّة، وتكونُ بتقرّب العبْد لربّه بالحُب والطّاعة ويُصافيه الله بقرْبه وكرامته، فنقول: الذي صوفِي مِن اللَّهِ”. وقد وضع فيه علماؤه المؤلفات الكثيرة التي بينوا فيها أصوله وقواعده وفروعه من أشهر هذه المؤلفات كتاب “إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي، وقد انتشرت الصوفية في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو للزهد والورع، ثم أصبحت مدرسة لها طرقا أُطلق عليها الطرق الصوفية، ولكن علم التصوف كأي علم يدخل فيه غير المتعلمين والمتخصصين، فقد أدى ذلك إلى ظهور ممارسات خاطئة، جعلت الصوفية في معرض النقد والهجوم من المدرسة السلفية باعتبار أن الصوفية بدعة دخيلة على الإسلام تنشر الخرافات، بينما يرى المتصوفة من علماء الشريعة ضرورة التفرقة بين الصوفية كمذهب ديني وأخلاقي يهتم بتهذيب النفس والسلوك ويقوم على الأصول الثابتة من القرآن والسنة، وبين الممارسات الخاطئة التي وقعت ممن ينسبون أنفسهم لهذا العلم، فكما أن الإسلام لا ينتفي بارتكاب بعض أتباعه ما يخالف منهجه، فكذلك لا تنتفي الصوفية بأخطاء العوام ولا تحولها إلى بدعة دخيلة على الإسلام.