السيرة العطرة هي التاريخ النبوي الكريم منذ المولد الشريف وما سبقه من إرهاصات [أمور خارقة] حتى الوفاة وما تلاها من أحداث، ولا شك أن من المصادر التي تُستقَى منها السيرة النبوية العطرة: القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والفرق بين ما حواه هذان المصدران المقدسان وبين السيرة هو أن الأحداث في السيرة رُوعي فيها الترتيب الزمني باعتبارها تأريخًا لمرحلةٍ نورانية من الزمن.
فآيات القرآن التي نزلت بحسَب الأحداث والمصالح التي اقتضت نزولها متفرقة تبين السيرة النبوية العطرة.
كما تُبينها السنة النبوية التي هي جمع لأقوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته [أي: عدم اعتراضه على أمر فُعِل بحضرته] وصفاته الخَلقية والخُلقية، فالسنة ليست كما يظن البعض قاصرة على الأحكام فقط، بل كثير من أحداث السيرة موجود في كتب السنة المطهرة بصورة متفرقة، حتى إن المحدثين في مصنفاتهم قد عقدوا أبوابًا خاصة بالمغازي النبوية، وهي سيرة بدو شكٍّ.
فكتابات السنة المبكرة تُعدّ تدوينًا للسيرة المطهرة، ويدخل في هذا ما جمعه الصحابة الكرام من صُحُف وكُتب كسيدنا عبدالله بن عمرو بن العاص، وسيدنا سعد بن عُبادة، وسيدنا جابر بن عبدالله، سيدنا عبدالله بن أبي أَوْفَى، وسيدنا سَمُرة بن جُندب، وسيدنا أبي رافع، وسيدنا أبي موسى الأشعري.. وغيرهم من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فكل هذه الكتب -وغيرها كثير- تُعدُّ مصادر مبكرة وموثقة للسنة والسيرة معًا.
وليس هذا فقط دليلًا على توثيق السيرة النبوية منذ العهد النبوي الشريف، بل كان للصحابة رضي الله عنهم مصنفات خاصة في السيرة النبوية، وقد سبق أن أشرنا في مقال سابق إلى أن سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما كان يذهب لبعض كبار الصحابة فيسأل عن أحداث سيرة سيدنا رسول الله ومعه ألواح يُدوّن فيها، وهذا تدوين محض لسيرة سيدنا رسول الله، وقد كان لسيدنا ابن عباس تلاميذ من بلدان مختلفة نقلوا كُتبه عنه، وقرءوها عليه، وانتشرت عنهم في الأمصار.
ولم يكن هو وحده القائم بهذا الأمر، فقد رَوى أصحابُ السِّير ما يدل على أن الصحابي الأنصاري سيدنا سَهْلَ بن أبي حَثْمَة رضي الله عنه كان له كتاب يفيدون منه، فقد كان حفيده محمد بن يحيى بن سهل يروي قائلًا: «وجدت في كتب آبائي» وهذا دليل على أن جده الصحابي ووالده التابعي كان لهما مصنفات يرجعُ إليها العلماء بالسيرة النبوية.
بل اهتم الصحابة الكرام بجمع ما كتبه صلى الله عليه وسلم من وثائق للجهات المختلفة وهي تُمثّل تأريخًا لبعض الكتابات النبوية الكريمة، حتى إن أول مجموع للوثائق النبوية -كما قال الدكتور محمد حُميد الله- قد جمعه الصحابي الجليل سيدنا عمرو بن حزم رضي الله عنه، حيث جمع من هذه الوثائق بضعًا وعشرين كتابًا كتبَها النبي، إضافة إلى كتاب أرسلَه به صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فكان هذا أول مجموعة لبعض الوثائق النبوية، وقد نُقِلَ هذا المجموع الوثائق جِيلًا فجيلًا حتى وصلَ إلينا، أليس يُعدُّ هذا توثيقًا دقيقًا للسيرة العطرة؟!
وهل يصح مع هذا التوثيق التاريخي للسيرة النبوية الادعاء بتأخر تدوين السيرة النبوية والتشكيك فيها؟!
إنه ادعاء لا يَسلم صاحبه من أحد أمرين: إما الجهل بهذه الحقائق، وإما تجاهلها وتعمد التشكيك فيها، وهما أمران أحلاهما مُرٌّ! وما شأن إنسان يتردد بين أمرين أهونهما الجهل؟!
ولعل الفهم الملتبس لمفاهيم «الجاهلية» و«الأمية»، مع الجهل بطبيعة الحياة العربية قبل الإسلام وبعده، وراء تلك الأباطيل!
ثم قام بالتأليف في السيرة النبوية الجيل التالي الذي أدرك جيل الصحابة وأخذ عنهم، ومن هذا الجيل أبناء الصحابة أنفسهم، فمِمن ألف كتابًا في السيرة النبوية عروةُ بن الزبير (ت 93هـ) -وقد دخل هذا الكتاب إلى مصر عن طريق تلميذه أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن- كما ألف فيها أبان بن عثمان بن عفان (ت 105هـ)، وكذلك كان للشَّعْبي (ت 103هـ) كتاب في المغازي كان يقرأ منه ومرّ بمجلسه وهو يقرأ سيدُنا عبدالله بن عمر رضي الله عنها فقال: كأنه كان شاهدًا معنا. وهذا توثيق لهذا الكتاب في السيرة العطرة.