بقلم / أ.د. علي مطاوع
الأستاذ بجامعة الأزهر
صفحة إيمانية جديدة ،يسطرّها المسلم المؤمن بالله ورسوله حقّ الإيمان، بحروف من أنوار الهُدى ،والتّقى ،والعفاف ،والغنى ؛بل بالهجرة إلى الله ورسوله بكل ما أوتي من فضل الله عليه من نعم لا تُحصى ولا تُعدّه ، أجلّها وأعظمها نعمة الإسلام ،صفحات خير وبركة ،وقربٍ من مدارات الإيمان بالله الواحد الأحد ،الفرد الصمد مع إشراقة عام هجريٌّ جديد ،أشرقُ علينا بأنواره وجلاله ،وتجليّاته النورانية المباركة ؛شهرُ اللهِ المحرَّمُ ،أوَّلُ شهرٍ من الأشهُرِ الهِجريَّةِ ،وأحدُ الأشهُرِ الحُرُمِ الأربعة ،التي عظَّمها الله تعالى وذكَرَها في كتابِه، فقال سبحانه وتعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهور عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }(التوبة – 36).
وقد شَرَّف اللهُ تعالى هذا الشَّهرَ الكريم المبارك من بين سائرِ الشُّهورِ، فسُمِّي بشهرِ اللهِ المُحَرَّمِ دون غيره من الشهور الهجرية ،حيث أضافه سبحانه إلى نفسِه؛ تشريفًا له ،وإشارةً إلى أنَّه حرَّمه بنفسه ،وليس لأحدٍ من الخلقِ تحليلُه . وكذلك احتفى رسولُ الله ( صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ) في هديه النبوي بالأشهر الحُرم ، وبخاصة شهر الله المُحَرّم تبصيرًا للأمة بحرمة هذه الأشهُرِ وجلالها وعظمها عند الله تعالى ،ومِن بينِها شهرُ الله المُحَرَّمِ ؛وقد جاء ذلك في سنن أبي داود ،فيما رواه أَبو بَكْرَةَ نفيع بن الحارث (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ) أنَّه قَالَ :” إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ،مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ،ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ :ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ ،وَالمُحَرَّمُ ،وَرَجَبُ مُضَرَ الذي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ …”
وقد رجَّح طائفةٌ من العُلَماءِ أنَّ مُحَّرمًا أفضَلُ الأشهُرِ الحُرُمِ كما أكّد الشيخ الدكتور نهار العتيبي ؛ قال ابنُ رجب: وقد اختلف العلماءُ في : أيُّ الأشهُرِ الحُرُمِ أفضَلُ ؟ فقال الحسَنُ وغيرُه : أفضلُها شهرُ اللهِ المُحَرَّمُ ،ورجَّحه أيضًا طائفةٌ من المتأخِّرين ،واستدلّوا على ذلك بما أخرجه مسلم في صحيحه ورواه أبو هريرة ، سُئِلَ ” أي النبي ( صلى الله عليه وسلم) : أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ المَكْتُوبَةِ ؟ وَأَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ ؟ فَقالَ : أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ الصَّلَاةُ في جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ ”
وإضافةُ الشَّهرِ للهِ هنا في الحديث إضافةُ تَعظيمٍ ،وهو أوَّلُ شَهرٍ في العامِ الهِجْريِّ كما ذكرنا من قبل ، فهو سَببٌ لِيَفتتِحَه بفِعلِ الخَيرِ واستِقْبالِه بالعِبادةِ ؛وذلِكَ مِن أفضَلِ الأعْمالِ ،كما يُستقبَلُ أوَّلُ النَّهارِ بالأذْكارِ ،فيُرْجى بذلِكَ أنْ يكونَ مُكفِّرًا لباقي العامِ ،كما في فَضيلةِ الذِّكْرِ في أوَّلِ النَّهارِ. ودليل آخر على هذا ما أخرجه النَّسائيُّ ,ورواه الدارمي ،وأحمد ،والطبراني ،والبيهقي ،عن أبي ذرٍّ ( رضي الله عنه ) قال : ” سألتُ النَّبيَّ (صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ) : أيُّ اللَّيلِ خيرٌ ،وأيُّ الأشهُرِ أفضَلُ ؟ فقال: خيرُ اللَّيلِ جَوفُه ،وأفضَلُ الأشهُرِ شَهرُ اللهِ الذي تَدْعونَه المُحَرَّمَ ” ، قال ابنُ رجب – رحمه الله – : “وإطلاقُه في هذا الحديثِ ( أفضل الأشهر ) محمولٌ على ما بعد رمضانَ، كما في روايةِ الحسَنِ المرسَلةِ ” .
والصَّومُ في شهرِ الله المحَرَّم مِن أفضل التطوُّعِ والقربى إلى الله ؛فقد أخرج مسلمٌ من حديث أبي هريرةَ – رضي الله عنه – أنَّ النبيَّ ( صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ) قال: ” أَفْضَلُ الصِّيامِ ،بَعْدَ رَمَضانَ ،شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ ،وأَفْضَلُ الصَّلاةِ ،بَعْدَ الفَرِيضَةِ ،صَلاةُ اللَّيْلِ ” . وهو شهر فُضّل بيوم عاشوراء ؛اليومُ العاشِرُ مِنه ؛ اليومُ الذي أنجى اللهُ تعالى فيه موسى وقومَه ،وأغرقَ فرعونَ وقومَه؛ فصامه موسى شُكرًا ،ولهذا اليومِ مزيَّةٌ ،ولصومِه فضلٌ ،قد اختصَّه اللهُ تعالى به ،وحَثَّ عليه رسولُ اللهِ ( صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ) حينما قدم المدينة ورأى صيامَ أهلِ الكتابِ له وتعظيمَهم له – وكان يحبُّ موافقتَه فيما لم يُؤمَرْ به – صامه وأمر الناسَ بصيامِه ، وأكَّد الأمرَ بصيامِه ،وحثَّ النَّاسَ عليه حتى كانوا يُصَوِّمونه أطفالَهم ، لِما رواه ابنُ عبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قال: قَدِمَ رَسولُ اللهِ ( صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ) المَدِينَةَ ،فَوَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ يَومَ عَاشُورَاءَ فَسُئِلُوا عن ذلكَ ؟ فَقالوا: هذا اليَوْمُ الذي أَظْهَرَ اللَّهُ فيه مُوسَى ،وَبَنِي إسْرَائِيلَ علَى فِرْعَوْنَ ، فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا له ، فَقالَ النبيُّ (صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ) : نَحْنُ أَوْلَى بمُوسَى مِنكُم فأمَرَ بصَوْمِهِ ” ، وقدْ روَى ابنُ عبَّاسٍ أيضًا أنَّ السُّنَّةَ أنْ يَصومَ المُسلِمُ اليومَ التَّاسعَ معه؛ مُخالفةً لليهودِ، كما في صَحيحِ مُسلِمٍ، ” . ذلك أنَّ النبيَّ ( صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ) عَزَم في آخِرِ عُمُرِه على ألَّا يصومَ يوم عاشوراء مُنفَرِدًا ،بل يضمُّ إليه يوم (التاسع) ؛مخالفةً لأهلِ الكتابِ في صيامِه ؛ ِما رواه ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّه قال: حين صام رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عاشوراءَ، وأمر بصيامِه ، قالوا : يا رسولَ اللهِ، إنَّه يومٌ تُعَظِّمُه اليهودُ والنَّصارى! فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ” فإذا كان العامُ المُقبِلُ إن شاء الله صُمْنا التاسِعَ ” ، قال: فلم يأتِ العامُ المقبِلُ حتى توفِّيَ رسولُ اللهِ ( صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ) .
أمَّا فضلُ صيامِ يومِ عاشوراءَ ،فقد دَلَّ عليه حديثُ النبيِّ (صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ) الذي رواه أبو قتادةَ – رَضِيَ اللهُ عنه – قالَ :وَسُئِلَ ( صلّى الله عليه وسلّم ) عن صَوْمِ يَومِ عَاشُورَاءَ ،فَقالَ : ” وصِيامُ يومِ عاشُوراءَ ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التِي قَبْلَهُ ” ،ولو صام المسلِمُ اليومَ العاشِرَ لحصل على هذا الأجرِ العظيمِ ،حتى لو كان مُفرِدًا له ،من غيرِ كراهةٍ ،خلافًا لما يراه بعضُ أهلِ العِلمِ ،ولو ضَمَّ إليه اليومَ التاسعَ لكان أعظمَ في الأجرِ؛ لِما رواه ابنُ عبَّاسٍ – رضي الله عنهما – أنَّ النبيَّ ( صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ) قال :” لئِنْ بَقِيتُ إلى قابِلٍ ،لأَصومَنَّ اليومَ التاسِعَ ” ،وقدْ ورَدَ حديثٌ آخَرُ عندَ البيهقيِّ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ – رضِي اللهُ عنهما- موقوفًا ،ما يُبيِّنُ حِكْمةً أخرى مِن صِيامِ يومِ التَّاسِعِ ،وفيه أنَّه ( صلَّى اللهُ علَيه وسلَّمَ ) قال : ” صوموا التَّاسِعَ والعاشِرَ وخالِفوا اليهودَ ” ؛وفي هذا بيانُ أنَّ العِلَّةَ مِن صِيامِ التَّاسِعِ هي مُخالَفةُ اليَهودِ.
تقبَل الله طاعتكم ،