بقلم: أميره ناصر
مدرس مساعد بكلية الدراسات الإسلامية للبنات بجامعة الأزهر
إن للموت جلالًا، وإن من أعظم تجلياته حين يُباغت الباحث في محراب علمه، وهو بعدُ لم يُتمَّ صلاته الفكرية، ولا ختم دعاءه بالقلم، وكأنما انقطع النفس من صدره، فبقيت أنفاسه حية في الورق، تنطق عنه، وتُفصحُ عن مجاهدته في طريق العلم!
ولقد وقفت جامعة الأزهر – مقام العقل والدين – ذلك الموقف النبيل الذي لا تقدر عليه إلا القلوب التي عرفت معنى الوفاء، ولا يجرؤ عليه إلا من أيقن أن القلم لا يُدفن مع صاحبه، بل هو شعلة تمضي في ظلام الدنيا لتُنير الطريق ولو لم ترَ النور عيون الباحث!
في مشهد يفيض بالهيبة، ولفتة إنسانية عميقة المعنى، سجّلت جامعة الأزهر موقفًا استثنائيًا قلَّ أن يجود الزمان بمثله، حين أصرَّت على أن تظلَّ الرسالة حاضرة، ولو غاب صاحبها. فقد ارتقت روح الباحثة هانم محمود أبو اليزيد محمد أبو العزم إلى بارئها، قبل أن تكتحل عيناها بفرحة إنجازها الأكاديمي، إلا أن روحها بقيت حيَّة في صفحات رسالتها، ونتاج فكرها العلمي بقي شاهدًا على سعيها الصادق.
فروح الباحثة هانم محمود أبو اليزيد، قد ارتفعت إلى السماء، لكن ما خطته يداها ظل في الأرض، لا تجرؤ الأيام أن تَمحو أثره، ولا الموت أن يُسقط ملكيته. كأنها كانت تكتب بدمع القلب، لا بحبر القلم، فنرى اليوم رسالتها تُناقش في غيابها، لكنها في الحقيقة حاضرةٌ بكل حضور، ناطقةٌ بصمتها، مشعةٌ بألمها.
لم يكن قرار جامعة الأزهر مجرد إجراء إداري، بل هو بيان علمي وإنساني، يرسَّخ أن للعلم مقامًا لا يُهدر، وللباحث الحقَّ في ثمرة جهده، حتى وإن حالت المنية بينه وبين يوم التتويج. لقد أدركت الجامعة أن الملكية الفكرية لا تُقبر مع صاحبها، وأن الواجب الأخلاقي والعلمي يحتّم أن يُحتفى بالجهد ولو رحل الجسد.
وعليه، انعقدت جلسة مناقشة علمية لرسالة الدكتوراه التي أعدَّتها الباحثة الراحلة، بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالقاهرة، في مشهد يزاحم فيه الصمتَ وقارُ العلم، وتعلو فيه الدعوات على أصوات الحبر. حضر جمع من الاساتذة الأجلاء، لتكون المناقشة درسًا خالدًا في الوفاء، وسابقة علمية وإنسانية تُضاف إلى رصيد الأزهر العريق.
جلس الأساتذة في قاعة المناقشة، لا ليناقشوا، ولكن ليُقيموا الصلاة الأخيرة على حلمٍ عاش بين السطور، وماتت صاحبته وهي تنتظر إعلان فرحه. جلسوا ليُشهِدوا الملائكة أن الأزهر لا ينسى أبناءه، وأن العلم عنده أمانة لا تُدفن، وحق لا يُؤخَذ من ورثة النبوغ.
ما أشرفها من لحظة، وما أصدقها من دمعة، حين جلس الأساتذة يناقشون عملًا أُنجز في حياة صاحبه، ووهبته روحها قبل أن تهبه الجامعة لقب الدكتوراه، تلك الدرجة التي نالها قلمها قبل أن تنالها هي، فكان للتكريم طعمُ الوفاء، وللدكتوراه هيبةُ النبلاء.
تلك المناقشة لم تكن سعيًا لاستكمال إجراءٍ ناقص، بل كانت رسالة رمزية ومعنوية بأن الباحثة ــ وإن غابت ــ لا تزال قائمة في وجدان المؤسسة، وأن كل ما خطته أناملها من فكر وتأمل وتأصيل، هو جزء من تراث الأمة وذمتها العلمية، لا يحق لأحد أن يطويه أو ينكره.
لقد كان منح الدرجة العلمية للباحثة الراحلة إعلانًا عن اكتمال الحلم رغم الفقد، وتكريمًا لروحٍ نذرت نفسها للعلم، وسارت في طريقه حتى آخر لحظة من عمرها. كما مثَّلت هذه الخطوة صورة راقية من صور التضامن المؤسسي، والاعتراف بالجميل، والحفاظ على كرامة الباحث وحقه الفكري، مهما حالت دونه ظروف الحياة أو الموت.
إن جامعة الأزهر إذ تفعل ذلك، فإنها تؤكد على مكانتها كمنارة علمية وروحية لا تغيب عنها المعاني الرفيعة، وتُجدد إيمانها بأن الكلمة تبقى، وأن للباحثين منازل لا تسقط بغيابهم، وأن الوفاء للعلم هو في حد ذاته علم.
هكذا يُخلد التاريخ لحظة إنسانية نادرة، وتُسطَّر بأحرف من نور في سجل الأزهر الشريف، وتبقى رسالة الباحثة هانم محمود أبو اليزيد شاهدًا على أن الأرواح الكبيرة لا تموت، بل تعيش في ميراثها، وفي الأثر الذي لا يزول.
يا هانم، ما مُتِّ، بل أحييتِ درسًا خالدًا: أن العلم لا يُدفن، وأن المخلصين يُكتب لهم الخلود في ذاكرة الأزهر، وفي كتب اللغة، وفي قلب كل قارئ يهمس بعد أن يقرأ رسالتك: رحم الله من كتب، وعاش، وجاهد، ومات، ولم تزل كلماته تحيا بعده .
لقد حفظ الأزهر لك حقك، وصان رسالتك، وأعلن أن الفكر لا يُورى في التراب، بل يُحفظ في قلوب العلماء. وإن هذا الذي فعلته الجامعة كرامة من كرامات أهل العلم، ووفاء لا تقدر عليه إلا الأرواح الكبيرة.
وهكذا تمّت المناقشة، وغابت الباحثة.
لكن ما خطَّته سيبقى ما بقي شوق إلى الحق، وعشق للعلم، وإيمان بأن من مات وفي يده قلم، فإن له حياة أخرى بين دفتيّ كتاب.
رحمكِ الله يا هانم، وجعل علمك صدقةً لا تنقطع، ورفعك به مقامات العارفين.
رحم الله الفقيدة، وجعل علمها صدقة جارية، ونصبًا علميًّا خالدًا في ذاكرة الأزهر.