تحدثنا في الأسبوع الماضي عن استقبال شهر شعبان، وأن الأعمال تُرفع فيه، لذا حرص الرسول- صلى الله عليه وسلم- على صيام أكثره، وذكرنا ما رواه الترمذي والنسائي عن أسامة بن زيد حيث قَال: قُلتُ: يا رسول الله، لمْ أرَكَ تصوم شهْرًا من الشهور ما تصوم مِنْ شعْبان؟! قال: «ذلك شهْرٌ يغْفُل الناس عنْه بيْن رجب ورمضان، وهو شهْرٌ تُرْفَع فيه الأعْمال إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أنْ يرْفعَ عملي وأنا صائمٌ».
ولشهر شعبان فضائل أخرى عظيمة منها تحويل القبلة، فسيدنا البراء يقول أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قد صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت الحرام فجاء تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام إرضاء لرسول الله الذي رغب في أن تكون قبلته تجاه المسجد الحرام ولكن تأدبا وحياء من الله عز وجل لم يطلبها، قال سبحانه وتعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}
وفي قول الله {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} بيان لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم، حيث أن الله تعالى يسارع في رضاه، ثم صرح له باستقبالها فقال سبحانه وتعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
ولقد قال على بن أبى طلحة أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أول ما نسخ في القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبله رسول الله بضعة عشر شهرا، وكان يحب قبلة أبيه إبراهيم، فكان يدعو الله، وينظر إلى السماء، فأنزل الله تعالى آيات تحويل القبلة، وكأنه سبحانه وتعالى يقول للحبيب المصطفى قد شاهدناك يا محمد وعلمنا تردد وجهك، وتسريح نظرك إلى السماء تطلعا إلى نزول الوحي عليك، وتوقعا لما ألقى في روعك من تحويل القبلة إلى الكعبة سعيا منك وراء استمالة العرب إلى الدخول في أحضان الإسلام، ومخالفة اليهود الذين كانوا يقولون: إنه يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، فقد أجبناك إلى ما طلبت وأعطيناك ما سألت، ووجهناك إلى قبلة تحبها وتميل إليها فاصرف وجهك وحوِّله نحو المسجد الحرام وجهته.
وأن الرسول الكريم صلى أول صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى مع النبي فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي قِبل مكة المكرمة فداروا كما هم قبل البيت الحرام، وعُرف المسجد من ذلك اليوم بذى القبلتين.
ثم عمَّم القرآن الكريم هذا التشريع على الأمة الإسلامية جميعها، فقال تعالى: {وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، أى: وحيثم كنتم وأينما وجدتم في بر أو بحر فوَّلوا وجوهكم تلقاء المسجد الحرام ونحوه.
ومن فضائل شهر شعبان أيضا أن فى منتصف هذا الشهر ليلة عظيمة، أخبرنا عنها رسول الله فقال: (يَطَّلِعُ اللهُ إلى خَلْقِه ليلَ النِّصْفِ من شعبانَ فيغفِرُ لجميعِ خلقِه إلا مُشْرِكٍ أو مُشاحِن). والمشاحن هو المعادي، والشحناء العداوة، والتشاحن تفاعل منه، أي أن الله يستثني أهل الحقد والشحناء والتدابر والتباغض كما يستثني أهل الشرك.
ويا لها من مشاعر بائسة قاسية، تحرم المرء من هذه الفرصة السنوية للمغفرة المجانية، ويحيا المشاحن حياة بائسة حقًا!
وخبر اطلاع الله تعالى في ليلة النصف من شعبان هو تذكير وتجديد للعلم بمعرفة الله تعالى بما يكون من الإنسان، فهي موعظة توقظ الغافل، وتجدد الهمة، وقد جاء في رواية أنه سبحانه وتعالى ينزل في تلك الليلة، وهذه فيها زيادة على معنى الاطلاع، وفيها الدليل على عظم الرحمة الإلهية بالعباد، فعن السيدة عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعَرِ غَنَمِ كَلْبٍ)).
كما أن شهر شعبان مقدمة لشهر رمضان المبارك، تُضاعف فيه الأجور، وتُفتَّح فيه أبواب الرحمة، فكأن رب العزة سبحانه وتعالى أراد من عباده التحلل من كل ظلم، ظلم النفس بالشرك، وظلم العباد بالتباغض، حتى لا يُحرموا تحصيل الأجر الجزيل، كما جاء في الحديث القدسي: (قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ).
فشهر شعبان يعد فرصة ذھبیة لنا كمسلمين للاستعداد الروحاني التام كما یجب قبل البدء في عبادة الصيام ، فھو یمھد الطریق لجلب السعادة والبرکة التي تکثر وتزداد في أیام رمضان عن غيره من المواسم والشهور.
اللهم في ليلة النصف من شعبان اكتبنا بفضلك ممن غفرت لهم ومحوت ذنوبهم وكتبت لهم العتق من النار.