تحرّى “ليلة القدر” بالاجتهاد في العشر الآواخر
زكاة الفطر.. طُهرة وطُعمة.. ومشاركة مجتمعية
القرآن أنزل على سبعة أحرف.. تخفيفاً على الأمة
حوار: أحمد شعبان
أكد د. شعبان إسماعيل- أستاذ أصول الفقه وعلم القراءات بجامعة الأزهر- أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم على سبعة أحرف تخفيفاً على أمة رسول الله بعد أن كثر الداخلون في الإسلام، وأن مكانة الفتوى العظيمة في الشريعة الإسلامية، مشدداً على أهمية تعيين القائمين عليها من قِبل ولي الأمر لخطورتها، مطالبا بأهمية إخراج زكاة الفطر في آخر شهر رمضان لأنها تذكّر المسلم بإخوانه الفقراء ومساعدتهم، وفيما يلى نص الحوار الذى اختص به “عقيدتى”.
*من المعروف أن رمضان شهر القرآن فكيف كان هدي رسول الله مع القرآن فيه؟
** لما كان شهر رمضان ظرفاً لنزول القرآن الكريم على سيدنا رسول االله، كان يخصه بالمزيد من العناية ومراجعته على جبريل عليه السلام، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، وفي العام الذي قبض فيه عارضه عليه مرتين ليبين له أن هذا هو القرآن في صورته الأخيرة، فلا زيادة ولا تبديل فيه.
ولذلك كان عثمان- رضي الله عنه- يوصي القائمين على جمعه وكتابته في المصاحف ألا يكتب فيها إلا ما استقرّ في العرضة الأخيرة، وفي هذا دلالة على وجوب تعاهد القرآن ومراجعته من حين لآخر حتى لا يُنسى منه شئ.
نزول القرآن
*من المعلوم أن القرآن الكريم أنزل على سبعة أحرف.. فهل لهذه الأحرف شروط حتى تكون مقبولة؟
** الذي لا شك فيه أن القرآن الكريم كان ينزل في أول الأمر بلغة قريش ولهجتها، ولما كثر الداخلون في الإسلام طلب الرسول- صلى الله عليه وسلم- من ربه جلَّ وعلا أن يخفّف على أمته في تلاوة القرآن الكريم، وبعد مراجعات كثيرة عن طريق جبريل- عليه السلام- جاء الأمر الإلهي بأن تقرأ الأمة القرآن على سبعة أحرف وكان رسول الله يقرأ بهذه الأحرف كلها ويعلمها لأصحابه.
وللعلماء خلاف طويل في المراد بالأحرف السبعة التي جاءت في الأحاديث، إلا أنهم متفقون على أنها تتضمن القراءات التي يُقرأ بها الآن، وهي قراءة الأئمة السبعة أو العشرة، ولها شروط ثلاثة: التواتر أو صحة السند المتصل إلى رسول الله، وأن تكون موافقة للمصاحف العثمانية التي كتبها عثمان أو واحد منها، وأن تكون متفقة مع وجه صحيح من وجوه اللغة العربية.
والقراءة التي تفقد هذه الشروط أو لأحد منها تسمى القراءة الشاذة، وهي تفسر بعض القراءات الصحيحة وهذه تدرس دراسة نظرية ولا يقرأ بها.
وقال بعض العلماء: إن القراءة الشاذة تؤخذ منها بعض الأحكام، كما في قوله تعالى: (وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ۚ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ۚ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) النساء: 12، قرأ سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه “وله أخ أو أخت من أمه”.
أهل الذكر
*ما المراد بالذكر في قوله تعالى: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”؟.
** المراد هو شرع الله تعالى ودينه الذي بعث به نبيه، سواء أكان قرآنا أم سنة، وليس المراد به القرآن فقط كما هو مشهور، لأدلة كثيرة منها: قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل: 43، فهم: أهل العلم بشريعة الله تعالى ودينه، وليس أهل القرآن فقط، وإلا لكان هذا الدين ناقصاً، وحاش لله تعالى أن يكون دينه ناقصاً. ويقاس عليهم كل متخصص في أي شئ يتعلق بشئون الدنيا لأن الإسلام دين شامل لأمور الدين والدنيا.
التدرج في التشريع
*من خصائص الشريعة الإسلامية: أن أكثر أحكامها شرعت بالتدرج حتى يتقبلها المسلمون، فهل ينطبق ذلك على فريضة الصيام؟
** وردت أخبار صحيحة أن الصوم كان معروفا عند أهل مكة، وكان المسلمون يصومون عاشوراء قبل الهجرة، وصوم رمضان شرع في السنة الثانية للهجرة، وكان أول الأمر يُخير المسلم الذي يشق عليه الصوم بين الصوم والفدية، وهذا ما يشهد له قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) البقرة 183، 184. فالآية الثانية ظاهرة في أن المطيق للصوم وهو الذي يتحمله بمشقة زائدة مخيَّر بين الصوم والفدية، وهي طعام مسكين عن كل يوم، وأن الصوم خير من الفدية، وهذا المبدأ ينطبق مع منهج القرآن في التشريع من ناحية التدرج فالصوم فيه مشقة، ولاسيما في بلاد كالحجاز، وفي مجتمع المسلمين الأول الذي كان يغلب فيه الفقر والحاجة مما يتطلب الجهد والمشقة في تحصيل الرزق. ثم نزل قوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) البقرة 185. فكان نزول هذه الآية رافعاً لرخصة الإفطار والاستعاضة عنه بالفدية بدليل أن الله تعالى أعاد حكم المسافر والمريض، ولو لم تكن الآية السابقة مفيدة للتخيير والثانية مفيدة للتعيين، لكان إعادة حكم المريض والمسافر تكراراً لا حاجة إليه، وهذا ما يتنزه عنه القرآن الكريم.
مكانة الفتوى
*للفتوى مكانتها في الشريعة، نرجو توضيح ذلك؟
** مكانة الفتوى عظيمة بكل المقاييس، ولا أدل على ذلك من أن الله تولاها بنفسه، ثم تولاها رسول الله مبلِّغاً عن ربه، ثم تحمل مسئوليتها العلماء باعتبارهم ورثة الأنبياء. ونصوص القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الصحيحة، والآثار المشهورة، ناطقة بذلك: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ…) النساء 176.
وفتاوى رسول الله في الأحكام الشرعية، على اختلاف مقاصدها أكثر من أن تحصى، في العقيدة والعبادات، والمعاملات بأنواعها المختلفة، ونظام الأسرة والعلاقات الاجتماعية، والحدود والقصاص، والجهاد، والقضاء، وسائر الأحكام العامة والخاصة.
من يتصدر للفتوى
*وماذا على ولي الأمر تجاه من يتصدّر للفتوى وهو ليس من أهلها؟
** ذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه إلى الحجر على المفتي الجاهل والمتلاعب بأحكام الشرع، مع أنه يرى عدم الحجر على السفيه احتراماً لآدميته، وما ذلك إلا لدفع الضرر الذي يمكن أن يلحق الناس من وراء الفتوى بغير علم. ونقل ابن القيم عن أبي الفرج ابن الجوزي أنه قال: ويلزم ولي الأمر منعهم من الفتوى، كما فعل بنو أمية، ثم قال: وهؤلاء بمنزلة من يدل الركاب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبب الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم.
وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟!
العشر الأواخر
*ما الحكمة من تفضيل العشر الآواخر من شهر رمضان؟ وكيف كان يحيها رسول الله؟
** الأيام والليالي تشرف بقدر ما فيها من أحداث، فشرف يوم عرفة لأن فيه يوم الحج الأكبر، وهذه الأيام الأخيرة من شهر رمضان لها قدرها وشرفها لأنها ختام هذا الشهر الكريم وفيها ليلة القدر التي تشرفت بنزول القرآن الكريم فيها، فهي ليلة ذات قدر وشرف كبير وعمر طويل يزيد عن ثمانين سنة، وهي منحة من الله تبارك وتعالى لهذه الأمة، فمن أحيا هذه الليلة بالعبادة من الصلاة وقراءة القرآن وسائر الطاعات التي تقرب العبد من ربه، فقد نال الأجر الذي أعده الله، واستحق أن تسلم عليه الملائكة الكرام كما قال الحق: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ، سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ).
لذلك كان رسول الله يحييها، قالت عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله”، ويستحب فيها الدعاء فعن السيدة عائشة قالت: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر فماذا أقول؟ قال: “قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”.
فعلى المسلم أن يجتهد في هذه الأيام الأخيرة لعله يصادف هذه الليلة المباركة، فينال الثواب الذي أعده الله تعالى لمن يحييها، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “من قام ليلة القدر إيماناً واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه”.
وللعلماء خلاف طويل في تحديد الليلة التي تكون فيها، لكنهم أجمعوا على أنها تكون في الوتر من العشر الأواخر، ولهذا كان رسول الله يحيي الليالي العشر الأواخر.
زكاة الفطر
*ما الهدف من زكاة الفطر وكيفية إخراجها ومقدارها؟
** الإسلام يهدف من وراء تشريعاته إلى تحقيق أمرين، أولهما: تنظيم العلاقة بين الإنسان وخالقه بحيث يكون دائم الاتصال به سبحانه باعتباره صاحب الفضل في وجوده، فمن حقه سبحانه على العباد الطاعة في كل ما يأمر وما ينهى، كما قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات: 56.
ثانيا: تنظيم العلاقة بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيع باعتباره جزءاً منه وأحد أعضائه، فإذا كانت فريضة الصيام تمثل العلاقة بين العبد وربه فإن من أهم ثمراتها: تذكّر المسلم لإخوانه الفقراء ومساعدتهم مما أفاء الله عليه من النعم. ولذلك شرعت زكاة الفطر في آخر شهر رمضان، فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرفث وطُعمة للمساكين.
وسميت بزكاة الفطر لأنها لا تجب إلا بالفطر من آخر يوم من رمضان، يدفعها المكلف عن نفسه وعمن تلزمه نفقته كالزوجة والأولاد الصغار وعن والديه إن كانوا فقراء، تخرج من غالب قوت البلد الذي يعيش فيه كالقمح والذرة والأرز والتمر وسائر الحبوب لمن عنده شئ من هذه الأصناف، أما من ليس عنده شئ منها فلا مانع من دفع القيمة.
وبالنسبة لمقدارها حدده رسول الله في كثير من أحاديثه بالصاع، فعن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: فرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كل حرّ وعبد، ذكر وأنثى، والصغير والكبير من المسلمين”. والصاع يساوي في الموازين الحديثة 2 كيلو وربع تقريباً. وهو أقل ما يجزئ من الزكاة، وعلى من وسّع الله عليه أن يوسّع على ذوي الحاجات، خاصة في هذا العصر الذي ارتفعت فيه الأسعار.
وأرى أن الأرز هو المناسب في هذه الأيام لأنه لا يخلو منه بيت، وليتذكر المسلم حديث رسول الله، عن الله عز وجل، أنه قال: “أنفق يا ابن آدم أُنفق عليك”. فالمال مال الله، وأنت مستخلف عليه كما قال جل شأنه: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) الحديد: 7.
ويجوز إخراجها في أي يوم من رمضان ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، وإلا كانت صدقة من الصدقات.
عيد الفطر
*أخيراً، ماذا يعني العيد في حياة المسلم؟
** المتأمل في التشريع الإسلامي يجد أن العيد يأتي عقب الانتهاء من عبادة من العبادات، فعيد الفطر يأتي عقب الانتهاء من فريضة الصيام، وعيد الأضحى يأتي عقب فريضة الحج، ولهذا مغزاه، فإن من حق المسلم أن يفرح ويسُرّ بأداء حق من حقوق الله والانتصار على هوى النفس والشيطان، ولذلك شرع التكبير في العيدين تعبيراً عن هذا الفرح، قال الله تعالى في سورة يونس- عليه السلام-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ). وفي الحديث الصحيح: “للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه”. وإذا كان يوم العيد يوم فرح وسرور، فإن ذلك لا يكتمل إلا بإدخال السرور والفرح على ألآخرين من ذوي القربى والأصدقاء والمسح على رؤوس اليتامى ومد يد العون للمحتاجين.
إن يوم العيد يوم عظيم تشهده الملائكة ابتهاجاً بنزول رحمات الله على عباده الذين أتموا الصيام، فيشاركونهم فرحتهم ويؤمّنون على دعائهم، ولذلك يسمى هذا اليوم بيوم الجائزة.