الفتاوى الوافدة والتأويلات الخاطئة للنصوص سبب صناعة الفتنة
منظومة النبوة والرسالة بناء متكامل الأركان
أهل الذمة والجزية ودار الحرب.. مفاهيم لها سياقات مكانية وزمانية انتهت الآن
ديننا يأمرنا بالبر والقسط في التعامل مع المخالفين في العقيدة ولم يجبر أحدًا على الدخول فيه
حوار – إيهاب نافع:
أكد فضيلة د. شوقي علام- مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم- أن مصر لديها تجربة فريدة في تعايش المسلمين والمسيحيين، وأن هذه التجربة التاريخية المصرية أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن المصريين جميعًا يعيشون في أخوة وتعاون وتكامل، أن الفرح بيوم مولد سيدنا عيسى عليه السلام أمر مندوب إليه، وأن الفرح بميلاد سيدنا عيسى، فرَح بقدوم سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، لأن سيدنا عيسى جاء مبشرًا به، والقرآن الكريم خلَّد ذِكْرَه بتفاصيله في سورة مريم، وأنه ليس هناك في الشرع ما يمنع من المشاركة في الاحتفال بيوم الميلاد المجيد لسيدنا المسيح، وأن الاحتفال بميلاد سيدنا عيسى، لا يستلزم الإقرار بما لا يوافق الإسلام من عقائد أهل الكتاب، وأن من يلاحظ منظومة النبوة والرسالة يجد أنها بناء متكامل الأركان والمعاني فكل منهما يؤدي إلى الآخر، وأن الفتاوى التي تحرِّم تهنئة إخوتنا المسيحيين بميلاد المسيح فتاوى عفَّاها الزمان ويجب ألا نلتفت إليها ونرفضها، وأن مشاركتنا لشركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم وتبادل الفرحة معهم هي من قبيل السلام والتحية وحسن الجوار، وأن المؤسسات الدينية الرسمية بمصر تسير على منهجية واحدة في أن تهنئة إخوتنا المسيحيين بميلاد السيد المسيح من أبواب البر الذي أمرنا الله به.
أضاف: هناك مصطلحات كثيرة وردت على لسان الفقهاء قديمًا كالجزية ودار الحرب ودار الإسلام كانت لها سياقات مكانية وزمانية انتهت الآن، وأن الفتوى مستقرة في دار الإفتاء المصرية منذ زمن بعيد على مشروعية بناء الكنائس وترميمها وإصلاحها، وأنه من العوار أن نستصحب من التراث ما كان لما هو كائن الآن بعقل يعوزه الفهم، وأن فتاوى دار الإفتاء حريصة أشد الحرص على تعزيز العلاقات الطيبة بين المصريين جميعًا. كاشفا النقاب عن أن أصحاب الفكر المتطرف الوافد على بيئتنا المصرية جاءوا بتأويلات فاسدة مخالفة للسيرة النبوية، وأن جميع الدساتير المصرية على مر العصور أكدت على المساواة بين كافة المصريين، وأن النسيج المجتمعي المصري لم يميز بين مواطن وآخر في منظومة متناغمة تحقق العيش المشترك، وأن الرئيس السيسي هو رئيس كل المصريين وهذا واضح وملموس في سعيه لحصول جميع أطياف المجتمع على الحياة الكريمة بكافة جوانبها، وأن الإسلام أمر بإظهار البر والرحمة والقسط في التعامل مع المخالفين في العقيدة ولم يجبر أحدًا على الدخول فيه.
*بداية فضيلة المفتي صرحتم غير مرة بأن التجربة المصرية تمثل نموذجا فريدا من نوعه من التعايش بخاصة بين المسلمين والمسيحيين.. فكيف ترون ذلك؟
** التجربة التاريخية المصرية أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن المصريين جميعًا يعيشون في أخوة وتعاون وتكامل، وفي عمق التاريخ تظهر الفتاوى المصرية القديمة وكذلك فتاوى دار الإفتاء وغيرها حريصة أشد الحرص على تعزيز هذه العلاقات الطيبة بين المصريين جميعًا، منذ أيام فقيه مصر الليث بن سعد حتى يومنا هذا، بل إن التاريخ الإسلامي لمصر أثبت أن سيدنا عمرو بن العاص لما دخل مصر وجد الرومان قد هدموا الكنائس ونفوا القيادات الدينية للمسيحيين، فعمل على إعادتهم إلى مناصبهم وعمارة ما كان قد دُمِّر من كنائسهم.
أن مصر على المستوى التشريعي منذ دستور 1923م وحتى دستور 2014م أكدت على المساواة بين كافة المصريين، فهم جميعًا سواسية أمام القانون والدستور، ولهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وهو ما أدَّى إلى تمازج النسيج الوطني المصري وتماسكه، وتمازج الدماء في الدفاع عن الوطن؛ ولذا فمصر لن تسقط إن شاء الله بحال من الأحوال للعديد من المقومات أبرزها عناية الله لهذا الوطن.
* لكن مجتمعيا هل حدثت على مدار التاريخ الحديث تمايز واضح يهدد ذلك النسيج المجتمعي؟
**النسيج المجتمعي المصري لم يميز بين مواطن وآخر، في منظومة متناغمة تحقق العيش المشترك الذي تحيطه المحبة والتسامح والسلام، وتم تتويج هذا التاريخ الطويل بافتتاح مسجد الفتاح العليم وكنيسة ميلاد المسيح في نفس اليوم وبحضور أكبر قيادتين دينيتين في مصر وبحضور الرئيس عبدالفتاح السيسي، وهي رسالة واضحة على أن المصريين جميعًا على قلب رجل واحد، وأن الرئيس هو رئيس كل المصريين، وهذا واضح وملموس في حصول جميع أطياف المجتمع على الحياة الكريمة بكافة جوانبها، ومن أجل مكافحة الفقر والجهل والمرض.
* أرجعتم بشكل أو بآخر حالات الحديث بالشكل غير اللائق لتأويلات فاسدة للنصوص الدينية.. فكيف هذا؟
**إن أصحاب الفكر الوافد على بيئتنا المصرية قد جاءوا بتأويلات فاسدة مخالفة للسيرة النبوية، فقد أرسى النبي هذه الثقافة في كل مكان عاش فيه، فكان ذلك مع أهل مكة حيث غرس فيهم العدل ولم ينعزل عنهم حتى أخرجوه من مكة إلى المدينة التي كانت تضم مجتمعًا متنوعًا في الأعراق والديانات، فوضع وثيقة المدينة المنورة التي تعد دستورًا للعيش المشترك، والإسلام دينُ التعايش، ومبادئه تدعو إلى السلام، وتُقِرُّ التعددية، وتأبى العنف؛ ولذلك أمر بإظهار البر والرحمة والقسط في التعامل مع المخالفين في العقيدة، فلم يجبر أحدًا على الدخول فيه، بل ترك الناس على أديانهم، وسمح لهم بممارسة طقوسهم، حتى إن النبي سمح لوفد نصارى نجران بالصلاة في مسجده الشريف، والمسجد هو بيت الله المختص بالمسلمين، فإنه يجوز -مِن باب أَوْلَى- بناءُ الكنائس ودُور العبادة التي يؤدون فيها عباداتهم وشعائرهم التي التزم المسلمون بالإبقاء عليها إذا احتاجوا إلى ذلك.
* جدلية كل عام نهنئ أو لا نهنئ الإخوة المسيحيين بميلاد المسيح عليه السلام، رغم فتواكم بهذا الشأن إلا أنها لا تزال تتردد بين حين وآخر؟
**نحن نهنئ دوما جموع الشعب المصري بمناسبة ميلاد السيد المسيح، لأننا نؤمن بأن الفرح بيوم مولده المعجز هو أمر مندوب إليه؛ لأن القرآن الكريم قد خلَّد ذِكْرَه بتفاصيله في سورة مريم، ووضعه في موضع مشرِّف، وأمر حبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتذكُّرِه فقال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ إلى قوله: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 16-33]، فالمسلمون يؤمنون بأنبياء الله تعالى ورسله كلهم، ولا يفرقون بين أحد منهم، وهم كما يفرحون بمولد النبي المصطفى، يفرحون بأيام ولادة الأنبياء والرسل أجمعين، وهم حين يحتفلون بهذا يفعلون ذلك شكرًا لله على نعمة إرسالهم هداية للبشرية ونورًا ورحمة، فإنهم أكبر نِعم الله تعالى على البشر، والأيام التي وُلِدَ فيها الأنبياء والرسل أيام سلام وبركة على العالمين.
*هل يعني ذلك أنه لا يوجد في الشرع ما يمنع تهنئة غير المسلمين وبالأخص الإخوة المسيحيين بأعيادهم؟
**نعم ليس هناك في الشرع ما يمنع من المشاركة في الاحتفال بيوم الميلاد المجيد لسيدنا المسيح على نبينا وعليه السلام؛ فالإسلام نسق مفتوح يؤمن أتباعه بكل الأنبياء والمرسلين ويحبونهم ويعظمونهم، ويحسنون معاملة أتباعهم، والسيد المسيح عيسى ابن مريم هو من أولي العزم من الرسل، وكل مسلم يؤمن به على أنه نبيٌّ من البشر وله المعجزات العظيمة والخوارق الجسيمة؛ كإحياء الموتى وشفاء المرضى بإذن الله تعالى، فالفرح بيوم مولده من الإيمان، والاحتفال بحلول العام الميلادي المؤرَّخ بميلاده عليه السلام لا يخالف عقيدة المسلمين في شيء، بل يندرج في عموم استحباب تذكر أيام النعم وإظهار آيات الله تعالى والفرح بها، ثم أن الفرح بميلاد سيدنا عيسى فرَحٌ بقدوم النبي، لأن سيدنا عيسى جاء مبشرًا بسيدنا محمد، كما أنه أَوْلَى الناس بعيسى؛ حيث يقول “أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ”.
* لكن توضيحا هنا استاذنا، البعض يدعي بأن الاحتفال بميلاد المسيح عليه السلام يستلزم اقرارا عقائديا يتصادم مع الشرع الحنيف؟
**إن الادِّعاء بأن الاحتفال بميلاد سيدنا عيسى عليه السلام يستلزم الإقرار بما لا يوافق الإسلام من عقائد أهل الكتاب هو ادِّعاء غير صحيح؛ فإن الله أمرنا بتعظيم المشترك بين الأديان السماوية من غير أن يكون في ذلك إقرار بما لا يوافق العقائد الإسلامية؛ فقد شارك النبي اليهودَ احتفالهم بيوم نصر سيدنا موسى على نبينا وعليه السلام؛ ففي “الصحيحين” عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسُئِلوا عن ذلك؟ فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيمًا له، فقال النبي: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ» فأمر بصومه، ولم ير في مشاركتهم الصيام موافقةً لهم على عقائدهم، وهذا يدل على الوحدة النبوية التي بدأت من سيدنا آدم وحتى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
* لفضيلتكم رؤية مرتبطة بمسألة التكامل بين الرسالات السماوية الثلاث نود ان نتعرف عليها؟
**نعم هناك تكامل بل إن من يلاحظ منظومة النبوة والرسالة يجد أنها بناء متكامل الأركان والمعاني، فكل منهما يؤدي إلى الآخر ويتكامل معه من حيث المبنى والمعنى، فكانت جميع الرسالات السماوية تدعو إلى المحبة والسلام والبناء وتهذيب النفس، وكل ذلك لا يكون إلا بالقلب السليم، وهذا ما عبر عنه النبي، بقوله: “مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين”، فرسالة النبي، هي اللبنة الأخيرة التي أكملت الرسالات واختتمتها لكي تبقى البشرية موصولة بهذا الوحي الإلهي.
*لدار الإفتاء مجموعة من الفتاوى التي رصدت فتاوى مرتبطة بتحريم تهنئة المسيحيين بأعيادهم، فكيف كانت ردودكم عليها؟
**دار الإفتاء المصرية قامت بدراسة رصدت مجموعة كبيرة من الفتاوى على الشبكة العنكبوتية تهدم العلاقة بين المسلمين والأقباط، كالسؤال عن حكم تهنئة المسيحيين بعيدهم، أو حكم بناء الكنائس، ومن الأمور الغريبة في هذه الدراسة أن هناك فتاوى صدرت من متشددين في دول لا يوجد عندهم أي مسيحي ولا كنائس! فكيف يحكمون على شيء لم يعاينوه أو يعاصروه؟!
إن الفتاوى التي تحرم تهنئة إخوتنا المسيحيين بميلاد السيد المسيح هي فتاوى قد عفَّاها الزمان ويجب ألا نلتفت إليها ونرفضها، ثم أن المؤسسات الدينية الرسمية بمصر كدار الإفتاء المصرية والأزهر والأوقاف تسير على منهجية واحدة في أن تهنئة إخوتنا المسيحيين بميلاد السيد المسيح، من أبواب البر الذي أمرنا الله به في قوله تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، كما أن القرآن الكريم أعطانا الدرس بأنه احتفى بميلاد السيد المسيح.
ولذا فمشاركتنا لشركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم وتبادل الفرحة معهم هي من قبيل السلام والتحية وحسن الجوار، وأن قيادات المؤسسات الدينية الرسمية تتبادل الزيارات مع قيادات الكنائس في مودة واحترام، وذلك مظهر من مظاهر البر والرحمة والتعامل بالرقي الإنساني الذي كان يفعله سيدنا رسول الله مع من جاوره أو تعامل معه منهم، وعلى ذلك سار المسلمون سلفًا وخلفًا عبر تاريخهم المُشَرِّف وحضارتهم النقية وأخلاقهم النبيلة السمحة التي دخلوا بها قلوب الناس قبل أن يدخلوا بلدانهم، وكذلك نؤكد على أن الفتوى مستقرة في دار الإفتاء المصرية منذ زمن بعيد على مشروعية بناء الكنائس وترميمها وإصلاحها.
* لكن الغريب شيخنا أن بعض تلك الفتاوى استعانت بنصوص من التراث وأسقطوها بشكل عجيب تلبيسا على الواقع الذي ربما هو مخالف كثيرا لما حدث في أزمان بعيدة؟
**الأمر هنا يدعونا دوما إلى ضرورة الانتباه والتيقظ عند التعامل أو النقل من التراث، و أنه من العوار أن نستصحب من التراث ما كان لما هو كائن الآن وبعقل ليس فاهمًا، فلا بد من الاستفادة من هذا التراث ولكن بعقل منفتح؛ فهناك فتاوى قديمة خاصة بسياقها الزمني والمكاني لا تصلح للتطبيق الحرفي الآن، ومن ذلك وصف أهل الكتاب بأهل الذمة، وهل المراد أن الأقباط في ذمة المسلمين وأوصياء عليهم؟ وهنا نود التأكيد على أن هناك مصطلحات كثيرة وردت على لسان الفقهاء قديمًا كالجزية ودار الحرب ودار الإسلام كانت لها سياقات مكانية وزمانية، وكانت مرتبطة بحالات حرب وصدام، أما الآن فلا يوجد استعلاء ووصاية على أحد.