يتعين قصر الافتاء على المؤسسات الدينية للدولة المؤهلة بحكم ولايتها وخبرتها وتخصصها فلا يجوز الافتاء بغير شروط وشروط الافتاء ليست بالأمر اليسير فى الفقه الإسلامى ان يمارسه العوام وإنما هو أمر بالغ الدقة والصعوبة يستفرغ فيه المجتهد وسعه ليحصل حكماً شرعياً يقتدر به على استخراج الأحكام الشرعية من مآخذها واستنباطها من ادلتها وعلى ذلك يجب ان يشترط فى المجتهد شروطاً للصحة أهمها ان يكون عارفاً بكتاب الله ومعانى الآيات والعلم بمفرداتها وفهم قواعد اللغة العربية وكيفية دلالة الألفاظ ومعرفة أصول الفقه «كالعام والخاص والمطلق والمقيد والنص والظاهر والمجمل والمبين والمنطوق والمفهوم والمتشابه» . هذا هو نص حكم المحكمة الادارية العليا بالإسكندرية فى حكمها القضائى والنهائى والبات بحظر الافتاء من الجهلاء والمضللين غير المتخصصين أو دعاة الإرهاب.. ودعت المحكمة المشرع لتنظيم الافتاء حفاظاً على الثوابت.
هذا الحكم التاريخى الذى أصدره القاضى الجليل محمد عبدالوهاب خفاجى ـ يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن هناك فراغاً تشريعياً بشأن ايجاد تنظيم تشريعى متكامل لعملية الافتاء فى المجتمع المصرى وهو ما يسبب مشكلات كثيرة مثل التى نعانى منها الآن.. فيجب ان يكون هناك تشريع برلمانى لمعاقبة من يتصدى للفتوى من غير المتخصصين أو من ينقصهم اتقان التخصص ووجوب توافر مواصفات محددة فى المجتهد الذى يجوز له ان يفتى الناس فى أمور دينهم ودنياهم وزجر غير المتخصصين الذين يتصدون للفتوى بغير علم أو من ينقصهم اتقان التخصص عن التجرؤ على الاجتهاد وافتاء الناس بغير علم لما ترتب على ذلك من مآس دينية ودنيوية وتشويه صورة المسلمين فى كل مكان.
وفى أيامنا الأخيرة ومع ظهور الفضائيات زادت وانتشرت الفتاوى الشاذة بين الناس وعٌرف بعض المفتين بآرائهم الشاذة فوسائل الاعلام فى عصرنا الحالى تعد من أخطر اسباب وقوع الشذوذ وانتشاره فى الفتاوى.. فالذى يفتى بالرأى الشاذ يضفى على الفتوى نوعاً من الشرعية ونسى أو تناسى هذا المفتى الشاذ ما عبر عنه القدامى من العلماء عن بعض الفتاوى الشاذة بقولهم «قول مردود لمصادمته لنص القرآن والسنة أو مقاصد الشرع».
وللحد من الفتاوى الشاذة التى انتشرت فى وسائل الاعلام يجب ان يتشاور الفقهاء كما كان يفعل القدامى خاصة فى المسائل الفقهية المهمة ولا يستأثر أحد منهم برأيه وحبذا لو ضمت دار الافتاء والأزهر الشريف الفقهاء تحت مظلة واحدة، فهذه أمور تمثل طوق حماية من الوقوع فى الشذوذ ولكن للأسف الشديد يسأل العالم على الهواء مباشرة عن الحكم فى مسألة خاصة لا تتعدى دائرة مستفتيها فيجيب المفتى إجابة عامة أو يذكر رأياً ضعيفاً لا داعى له فتسبب الفتوى فوضى بين عامة الناس فى المجتمع.
والأصل فى العالم الذى يتصدى للافتاء عبر الفضائيات ان يكون من العلماء المشهود لهم بالعلم والفتوى وحسن الخلق لأنه أهل للتعامل مع علوم الدين والاقدر على استنباط الأحكام وأبصر بالصحيح منها وأكثر اجتناباً للشاذ والضعيف منها فمفتى الفضائيات يجب ان يكون قدوة لغيره من العلماء وعوام الناس، ويكون معيناً لهم على طاعة الله معززاً للرقابة الذاتية.. وقد قرر العلماء القدامى أن «من عرف من المفتين بالتساهل واشتهر به حُرَّم استفتاؤه» وللأسف الشديد نعانى كثيرا من اتباع الهوى عند الفتوى من بعض العلماء خاصة من غير المتخصصين وممن لم يستجمع شروط المفتى.. ومن صور اتباع الهوى فى الفتوى الترجيح بين الأقوال المختلفة والآراء المتباينة بغير مرجح من دليل الميل النفسى لذلك.
ومن أهم معايير الشذوذ فى الفتوى ـ كما ذكر العلماء ـ ان يستدل المفتى بما لا يصلح دليلاً كالأكثار من الأدلة العقلية المجردة فى مسائل شرعية ومحاولة تقوية الآراء الضعيفة عن طريق الاستدلال العقلى.. وهذا لا يعنى الدعوة إلى الجحود فمراعاة تغيير الزمان والمكان والحال أمر مطلوب معرفته للمفتى لذا يجب ان يتدرب المفتى أولاً ويحيط بالعادات والتقاليد المجتمعية.. أما المتعالم أو الجاهل فسبب رئيسى فى وقوع الشذوذ عنده هو حب الظهور والشهرة وهذا كفيل فى القدح بصاحب هذه الفتى الشاذة.
ان مخاطر الفتاوى الشاذة وآثارها السلبية كثيرة وكثيرة.. فالفتوى الشاذة آثارها السلبية عن الفقه الاسلامى نفسه وعلى العلماء العاملين فهى تشوه الفقه وتنفر الناس منهم، فلا يأخذون بأقوالهم، وتشكك فى الاحكام الشرعية، وبذلك تضيع الحقوق وتذهب الواجبات ويعطى الحق لغير مستحقه ويكثر الجهل ويقل العلم.
لذلك أرى انه يجب ان تسارع الدولة متمثلة فى مجلسى النواب والشورى باصدار تشريع عاجل بشأن تقنين الحديث فى الشأن الدينى عبر وسائل الاعلام وان يكون الحديث فقط للمتخصصين الذين تصرح لهم المؤسسة الدينية بذلك لنمنع الفوضى وعدم اثارة الفتن والبلبلة فى المجتمع واستبعاد المخربين الذين يظهرون على الفضائيات وينشرون فتاواهم الشاذة.
وختاماً:
قال تعالى: «وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ».
صدق الله العظيم
سورة التوبة «آية 122»